تهذيب الآثار للطبري

الطبري - محمد بن جرير الطبري

صفحة جزء
فإن قال قائل: إن الخبر الذي ذكرت عن الشعبي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر مرسل، وراويه بعد مجالد ، وواجب في خبر مجالد عن كثير من أهل النقل، التثبت فيما كان منه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متصلا، فكيف بما يكون منه مرسلا منقطعا؟ قيل له: ما قد بينا في غير هذا الموضع من أن مراسيل العدول الذين شأنهم التحفظ من الرواية عمن لا يجوز الرواية عنه من الأخبار، لله تعالى دين لازم من [ ص: 653 ] بلغته قبولها والدينونة بها، مع بيان الأسباب الموجبة عليه قبول خبر مجالد ونظرائه إن شاء الله تعالى.

وبعد، فإننا لم نجعل علتنا في تصحيح المعنى الذي تأولناه وقلنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا" ، الخبر الذي ذكرناه عن الشعبي وحده، دون غيره من المعاني التي نتفق نحن ومخالفونا عليها الدلالة على صحة ما قلنا في ذلك.

وذلك أنا نقول للزاعم أن معنى ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم: النهي عن الامتلاء من الشعر حتى لا يكون في قلب صاحبه شيء غيره من القرآن والعلم: أخبرنا عن النهي الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الامتلاء من الشعر، إن كان الأمر على ما وصفت، أمخصوص له الشعر خاصة، أم ذلك عام في كل ما امتلأ الجوف منه حتى لا يكون فيه غيره؟ فإن زعم أن ذلك مخصوص به الشعر خاصة، دون سائر الأشياء غيره، قيل له: الجائز إذا أن يمتلئ قلب المؤمن رواية أساجيع الكهان وخطب الخطباء، حتى لا يكون فيه من كتاب الله عز وجل ولا من علوم الدين شيء؟ فإن قال: ذلك كذلك، خرج من قول جميع الأمة، لإباحته الجهل من أمور الدين بما لم يبح الله الجهل به، ومن ترك حفظ القرآن وما لا يسع ترك حفظه لأحد .

[ ص: 654 ] وإن قال: ذلك غير جائز.

قيل: فقد بطل إذا أن يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه معنيا به الشعر خاصة.

وذلك ترك منه لقوله.

وإن قال: بل ذلك معني به كل ما امتلأ منه جوف المرء كائنا ما كان ذلك الذي امتلأ منه، شعرا أو غيره، ترك القول بالخبر، وقيل له: فقد يجب إذا، إن كان الأمر كذلك، أن يكون من امتلأ قلبه من القرآن والحكمة، أن يكون ممتلئا قلبه من القيح الذي يريه خير له من امتلائه من ذلك.

وذلك قول إن قاله لا يخفى فساده على ذي فطرة صحيحة.

وإن قال: بل ذلك معني به الامتلاء من بعض المعاني دون بعض.

قيل له: فما ذلك المعنى الذي عني بالنهي عنه؟ فإن سمى شيئا بعينه من صنوف العلوم عورض في ذلك بخلافه، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

التالي السابق


الخدمات العلمية