صفحة جزء
3058 - حدثنا أحمد، نا أحمد بن عبدان، نا محمد بن كثير بن الأزهر؛ قال: [ ص: 151 ] قال بعض زهاد البصرة والناس عنده: يا ابن آدم! عجبا لك! كيف تقر عينك أو يزايل الوجل والإشفاق قلبك؛ وقد عصيت ربك واستوجبت بعصيانه غضبه وعقابه، والموت لا محالة نازل بك بكربه وغصصه ونزعه وسكراته؟ ! فكأنه قد نزل بك سريعا وشيكا، وقد صرعت للموت صرعة لا تقوم منها إلا إلى الحشر إلى ربك؛ فكيف بك في نزع الموت وكربه وغصصه وسكراته وقلقه؛ وقد بدأ إليك الملك يجذب روحك من قدميك؛ فوجدت ألم جذبه من جميع بدنك، حتى إذا بلغ الكرب منك منتهاه، وعم ألم الموت جميع جسدك، وقلبك وجل محزون مرتقب للبشرى من الله عز وجل بالغضب أو بالرضى؛ فبينا أنت في كربك وارتقابك إحدى البشريين من الله عز وجل؛ إذ نظرت إلى صفحة ملك الموت بحسن صورة أو بقبحها مادا يده إلى فيك لينزع روحك من بدنك، وعاينت صفحة ملك الموت، وتعلق قلبك ماذا يفجؤك من البشرى منه، بسخطه أو برضاه؛ فأخذت نفسك، ثم بعد ذلك القبر وهول المطلع، ثم سؤال الملكين وعذاب القبر وانتظارك الصيحة؛ فبينا أنت كذلك؛ إذ سمعت نفخة الصور؛ فانفرجت الأرض عن رأسك، فوثبت من قبرك على قدميك بغبار قبرك قائما على قدميك، شاخصا ببصرك نحو النداء، وقد ثار الخلائق معك ثورة واحدة في زحمة الخلائق عراة صموت أجمعون، قد وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ، والصوت يمدهم [ ص: 152 ] بالمنادي، والخلائق مقبلون نحوه، وأنت فيهم ساع بالخشوع والذلة، حتى إذا وافيت الموقف وازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة أذلاء، قد نزع الملك من ملوك الأرض، ولزمتهم الذلة والصغار؛ فهم أذل أهل الأرض وأصغرهم خلقة وقدرا بعد عتوهم وتجبرهم على عباد الله في أرضه، ثم أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال منكسة رؤوسها بعد توحشها وانفرادها عن الخلائق، ذليلة ليوم النشور بغير بلية نالتها ولا خطيئة أصابتها، وأقبلت السباع بعد ضراوتها وشدة بأسها منكسة رؤوسها ذليلة ليوم القيامة، حتى وقفت من وراء الخلائق بالذلة والمسكنة للملك الجبار، وأقبلت الشياطين بعد تمردها وعتوها خاضعة خاشعة لذل العرض على الله؟ ! فسبحان الذي جمعهم بعد طول البلاء باختلاف خلقهم وطبائعهم وتوحش بعضهم من بعض! قد أذلهم البعث، وجمع بينهم النشور، حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها واستووا جميعا في موقف العرض والحساب؛ تناثرت نجوم السماء من فوقهم، وطمست الشمس والقمر، وأظلمت الأرض لخمود سراجها وإطفاء نورها، ومادت السماء من فوقهم، فدارت بعظمها من فوقهم، وأنت تنظر إلى هول ذلك، فبينا ملائكة على حافاتها؛ إذ انحدروا منها إلى الأرض للعرض والحساب، فيفزع الخلائق لنزولهم مخافة أن يكونوا قد أمروا بهم، وتفزع الملائكة إجلالا لمليكهم، وقد كسيت الشمس حر عشر سنين وأدنيت من الخلائق قاب قوس أو قوسين؛ فلا ظل لأحد إلا عرش رب [ ص: 153 ] العالمين، فمن بين مستظل بظل العرش، وبين مضح بحر الشمس قد صهرته وأسكرته، ثم ازدحمت الأمم من العطش، فاجتمع حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق، وتزاحم أجسادهم، ففاض العرق منهم سيلا حتى استنقع على وجه الأرض، ثم علا الأبدان على قدر أعمالهم، ومراتبهم ومنازلهم عند الله عز وجل في السعادة والشقاء، وأنت كأحدهم لا محالة، حتى إذا بلغ منك ومنهم المجهود، وطال وقوفهم لا يتكلمون ولا ينظر في أمورهم؛ فما ظنك بوقوفهم ثلاث مئة عام لا يأكلون ولا يشربون ولا ينفح وجوههم روح ولا نسيم جو ولا ريح، ولا يستريحون من تعب قيامهم ونصب وقوفهم، وقد اشتد العطش، فيفزعون إلى حوض محمد صلى الله عليه وسلم، فمن شارب من حوضه صادر عنه بعد ريه مسرور قلبه بفرحه بالري وزوال شدة عطشه، ومن مصروف وجهه عن حوضه ومول بعطشه وشدة حسرته على ما خيب من أمله أن يشرب من حوضه، ينادي بصوته المحزون عن قلبه الحسر المغموم: أتيت حوض محمد صلى الله عليه وسلم فصرف وجهي؛ فواعطشاه! وليس منا أحد إلا وهو خائف أن يحل به ما حل به؛ فحق عليك أن تعيش في الدنيا مغموما محزونا خائفا أن يصرف وجهك عن حوض محمد صلى الله عليه وسلم، ثم دخل النار بعد ذلك بعطشه، فبينا هم كذلك؛ فزعوا إلى آدم [صلى الله عليه وسلم] أن يشفع في الراحة من مقامهم، وإلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؛ فكلهم قال: إن ربي قد غضب غضبا لم يغضبه قبل ولا بعد. فكلهم يقول: نفسي نفسي؛ فما ظنك بيوم ينادي فيه المصطفى آدم والخليل إبراهيم والكليم موسى والروح والكلمة عيسى عليه السلام؛ مع [ ص: 154 ] كرامتهم على الله عز وجل وعظم قدر منازلهم عند الله عز وجل؛ كل يقول: نفسي نفسي؛ من شدة غضب ربه عز وجل؟ ! حتى إذا أيسوا من الشفاعة أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فسألوه الشفاعة إلى ربهم عز وجل، فأجابهم إليها، ثم قام إلى ربه؛ فأثنى عليه وحمده بما هو أهله؛ حتى أجابه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضه، فبيناه؛ إذ نادى مناد: إن الجبار قد أتى لعرضك عليه، حتى كأنه لا يعرض عليه أحد سواك، ولا ينظر إلا في أمرك، ثم جيء بجهنم، ثم زفرت وثارت إلى الخلائق من بعد، وسمعوا لها تغيظا وزفيرا، ثم تحمل على الخلائق حتى يتساقطوا على ركبهم جثيا حول جهنم، فأرسلوا الدموع، وارتفعت أصوات الخلائق بالبكاء والعويل، وقد ذهلت عقولهم لعظم ذلك اليوم، وفر منك الولد والوالد والأخ والصاحب، فبينا الخلائق على ذلك؛ ارتفعت عنق من النار، فنطقت بلسان فصيح بمن وكلت أن تأخذهم من بين الخلائق بغير حساب، فابتلعتهم، ثم خنست بهم في جهنم، تقول ذلك ثلاثا، ثم ينادي مناد: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ليقم الحامدون الله عز وجل على كل حال. فيقومون، فيسرحون إلى الجنة، ثم يفعل ذلك بأهل قيام الليل، ثم بمن لم تشغله في الدنيا تجارة ولا بيع على ذكر الله، حتى إذا دخل هذان الفريقان الجنة من أهل الجنة وأهل النار النار بغير حساب؛ تطايرت الكتب؛ فآخذ ذات اليمين، وآخذ ذات الشمال؛ حتى تقع في أيمانهم وشمائلهم، ونصبت الموازين وأنت متوجل أين يقع كتابك: في يمينك أو شمالك؛ فإن وقع في يمينك؛ فقد فزت، وإن وقع في شمالك؛ فقد خسرت الدنيا والآخرة، ثم تنشر [ ص: 155 ] صحفك وما عملت من خير وشر؛ فقد أحصاه الله ونسيته، ثم توقف بين يدي الله عز وجل، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم، وقد خلع قلبك فزعا حتى أتوا بك إلى ربك عز وجل، فيقول لك: يا ابن آدم! فيما أفنيت عمرك، ومالك من أين جمعته، وفيما فرقته؟ ثم يسألك عن قبيح فعلك وعظيم جرمك؛ فكم لك من حياء وخجل من الذي لم يزل إليك محسنا، وعليك ساترا؛ فبأي لسان تجيبه حين يسألك؟ ! وبأي قدم تقف بين يديه؟ ! وبأي قلب تحتمل كلام الجليل؟ ! فكم من بلية قد كنت نسيتها قد ذكرها؟ ! وكم من سريرة قد كنت كتمتها قد أظهرها وأبداها؟ ! وكم من عمل قدمته ظننت أنه قد خلص لك وسلم بالغفلة منك إلى ميل الهوى عما يفسده، قد رده في ذلك الموقف بعدما كان أملك فيه عظيما؟ ! فيا حسرات قلبك! ويا أسفك على ما فرطت في طاعة ربك عز وجل! حتى إذا كرر عليك السؤال بذكر كل بلية ونشر كل مخبإ؛ فأجهدك الكرب، وبلغ الحياء منك منتهاه، ويقول لك: يا عبدي! أما أجللتني؟ أما استحييت مني؟ استخففت بنظري ولم تهابني؟ ألم أحسن إليك؟ ! ألم أنعم عليك؟ ! ما غرك بي؟ ! شبابك فيما أبليته، وعمرك فيما أفنيته، ومالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته، وعلمك ماذا عملت به؟ ! فما يزال يعدد من ذلك عليك أشياء وأنت قد طار قلبك، فأعظم به موقفا، وأعظم به سائلا، وأعظم مما يداخلك من الغم والحزن والتأسف على ما فرطت في طاعته، فإذا بقيت متحيرا: إما أن يقول لك: يا عبدي! أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وإما [ ص: 156 ] أن يقول لك: يا عبدي! أنا غضبان عليك؛ فعليك لعنتي؛ فلن أغفر لك عظيم ما أتيت، ولن أتقبل منك ما عملت، ويقول ذلك عند بعض ذنوبك العظيمة، ثم يقول: خذوه؛ فما ظنك بالله يقولها؛ فتبادر إليك الزبانية بفظاظتها وغلظ أكفها، وأنت ذليل موقن بالهلاك، وأنت في أيديهم وهم ذاهبون بك إلى النار، مسود وجهك، تتخطى الخلائق وكتابك بشمالك، تنادي بالويل والثبور حتى تساق إلى جهنم، فتذاق ألوان العذاب؛ فأشفق يا ابن آدم على ضعف بدنك، وتخفف في الدنيا من الذنوب، وللممر على الصراط الذي هو مسيرة خمس عشرة ألف عام، ولهول القيامة؛ فإنما خف ذلك على أوليائه بهمومها في الدنيا لعقولهم، فتحملوا في الدنيا ثقل همومها حتى خشعت قلوبهم وجلودهم في الدنيا، فخففها عليهم بذلك مولاهم. فألزم قلبك خوفه، واشتغل بطاعته لعله يرى اهتمامك؛ فيبلغك؛ فتكون ممن قد زحزح عن النار وأمن غمرات القيامة، واسأله التوفيق لما يدنيك منه، وما يسلي عنك غم ذلك اليوم من هول الموقف؛ فإنه أهل الفضل والإحسان والكرم.

التالي السابق


الخدمات العلمية