لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ثم ذكر من صفات الله التي يثبتها السلف دون غيرهم عدة وبدأ بصفة الوجه له تعالى فقال : ( ( كوجهه ) ) أيمن الصفات الثابتة له تعالى صفة الوجه إثبات وجود لا إثبات تكييف وتحديد ، وهذا الذي نقل الخطابي وغيره أنه مذهب السلف والأئمة الأربعة ، وبه قال الحنفية والحنابلة وكثير من الشافعية وغيرهم وهو إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي [ ص: 226 ] الكيفية والتشبيه عنها محتجين بأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، فإذا كان إثبات الذات وجودا لا إثبات تكييف ، فكذلك إثبات الصفات ، وقالوا : إنا لا نلتفت في ذلك إلى تأويل لسنا منه على ثقة ويقين ، لاحتمال أن يكون المراد غيره لأنه مأخوذ بالظن والتخمين ، لا بالقطع واليقين ، فلا نبني اعتقادنا عليه ، ولا نرجع عن النص الثابت إليه

فإن هذا عند السلف مذموم وناهج هذا المنهج معيب ملوم ، قال بعض المحققين : صفات الرب تعالى معلومة من حيث الجملة والثبوت ، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد ، فالمؤمن مبصر بها من وجه أعمى من وجه ، مبصر من حيث الإثبات والوجود ، أعمى من حيث التكييف والتحديد ، قال الله تعالى في محكم كتابه ويبقى وجه ربك - فأينما تولوا فثم وجه الله - إنما نطعمكم لوجه الله - كل شيء هالك إلا وجهه وفي الحديث : من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله ، وفي آخر : أعوذ بوجهك الكريم ، والأحاديث كثيرة شهيرة .

قال أهل التأويل : المراد بالوجه الذات المقدسة ، فأما كونه صفة الله فلا ، وهو قول المعتزلة ، وجمهور المتكلمين ، وزعموا أنه يروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : الوجه عبارة عنه عز وجل ، كما قال ( ويبقى وجه ربك ) .

وقال ابن فورك : قد تذكر صفة الشيء ويراد بها الموصوف توسعا كما يقول القائل رأيت علم فلان ، ونظرت إلى علمه ، والمراد نظرت إلى العالم . وقال القرطبي : قال الحذاق : الوجه راجع إلى الوجود والعبارة عنه بالوجوه من مجاز الكلام ، إذا كان الوجه أظهر الأعضاء في المشاهدة .

ومذهب السلف الأول ، والرعيل الذي عليه المعول أن الوجه صفة ثابتة لله تعالى ، ورد بها السمع فتتلقى بالقبول . ويبطل مذهب أهل التأويل ما قاله الإمام الحافظ البيهقي ، والخطابي في قوله تعالى ويبقى وجه ربك فأضاف الوجه إلى الذات ، وأضاف النعت إلى الوجه ، فقال ( ذو الجلال ) ولو كان ذكر الوجه ولم يكن صفة للذات لقال ذي الجلال ، فلما قال ذو الجلال علمنا أنه نعت للوجه صفة للذات .

وقال علماؤنا : قد ثبت في الخطاب العربي الذي أجمع عليه أهل اللغة أن تسمية الوجه في أي محل وقع من [ ص: 227 ] الحقيقة والمجاز يزيد على قولنا ذات ، فأما الحيوان فذلك مشهور حقيقة لا يمكن دفعه ، وأما في مقامات المجاز فكذلك أيضا ، لأنه يقال : فلان وجه القوم لا يراد به ذات القوم ، إذ ذوات القوم غيره قطعا ، ويقال : هذا وجه الثوب لما هو أجوده ، ويقال : هذا وجه الرأي أي أصحه وأقومه ، ويقال : أتيت بالخبر على وجهه أي حقيقته - إلى غير ذلك مما يقال فيه الوجه .

فإذا كان هذا هو المستقر في اللغة ، وجب أن يحمل الوجه في حق الباري على وجه يليق به ، وهو أن يكون صفة زائدة على تسمية قولنا ذات

فإن قيل : يلزم أن يكون عضوا وجارحة ذات كمية وكيفية وهو باطل ، فالجواب هذا لا يلزم لأن ما توهمه المعترض ، إنما هو بالإضافة إلى ذات الحيوان المحدث لا من خصيصة صفة الوجه ، ولكن من جهة نسبة الوجه إلى جملة الذات ، فيما ثبت لها من الماهية المركبة ، وذلك أمر مدرك بالحس في جملة الذات ، فكانت الصفات الحادثة مساوية للذات المحدثة ، بطريق كونها منها ، ومنتسبة إليها نسبة الجزء من الكل ، فأما الوجه ( المضاف - 1 ) للباري تعالى ينسب إليه نسبة الذات إليه ، وقد ثبت أن الذات في حق الباري ، لا توصف بأنهم جسم مركب تدخله الكمية وتتسلط عليها الكيفية ، ولا نعلم لها ماهية ، فصفته تعالى التي هي الوجه كذلك لا يوصل لها إلى ماهية ، ولا يوقف لها على كيفية ، ولا تدخلها التجزئة المأخوذة من الكمية ، لأن هذه إنما هي صفات الجواهر المركبة أجساما ، والله تعالى منزه عن ذلك

ولو جاز هذا الاعتراض في الوجه لقيل بمثله في السمع والبصر والقدرة والعلم ونحوها ، فإن العلم في حق المخلوق في الشاهد عرض قائم بقلب يثبت بطريق ضرورة أو اكتساب مشارك في إثبات ماهية أو كمية أو كيفية .

قال أبو الحسن الأشعري : لله تعالى وجه بلا كيف كما قال : ( ويبقى وجه ربك ) ، قال : ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل ، وقال القاضي أبو بكر بن الباقلاني : فإن قال قائل : فما الدليل على أن لله تعالى وجها ؟ قيل له : قوله تعالى ويبقى وجه ربك وقال الإمام أبو حنيفة : وله تعالى يد ووجه ونفس .

فما ذكر [ ص: 228 ] الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ، وقد روى مسلم في صحيحه ، وابن ماجه في سننه حديث : إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .

قال الإمام النووي : معناه أنه تعالى لا ينام ، وأنه مستحيل في حقه النوم ، فإن النوم انغمار وغلبة على العقل يسقط به الإحساس ، والله تعالى منزه عن ذلك ، وسبحات وجهه نوره وبهاؤه وجلاله ، بضم السين المهملة والباء الموحدة ، وقيل سبحات الوجه محاسنه ، لأنه يقال سبحان الله عند رؤيتها ، وأصل الحجاب في اللغة المنع والستر ، والمراد به هنا المانع من رؤيته ، وسمي ذلك المانع نورا لأنه يمنع في العادة من الإدراك كشعاع الشمس .

قال : والمراد بالوجه الذات ، والمراد بما انتهى إليه بصره جميع المخلوقات ، لأن بصره تعالى محيط بجميع الكائنات إلخ كلامه ، وقوله : المراد بالوجه الذات يعني على طريقة الخلف ، وقالوا في قوله تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله أي فثم رضاه وثوابه ، وقالوا في قوله إنما نطعمكم لوجه الله أي لرضاه وطلب ثوابه ، وقيل فثم الله والوجه صلة .

وقيل : المراد بالوجه في قوله تعالى فثم وجه الله الجهة التي وجهنا الله إليها أي القبلة ، والحق الحقيقي مذهب سلف الأمة وما عليه الأئمة من إثبات الوجه ونحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية