لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( ( الباب الثاني في الأفعال المخلوقة ) )


( ( وسائر الأشياء غير الذات وغير ما الأسماء والصفات ) )      ( ( مخلوقة لربنا من العدم
وضل من أثنى عليها بالقدم ) )      ( ( وربنا يخلق باختيار
من غير حاجة ولا اضطرار ) )      ( ( لكنه لا يخلق الخلق سدى
كما أتى في النص فاتبع الهدى ) )

( ( وسائر ) ) أي بقية ( ( الأشياء ) ) جمع شيء ( ( غير الذات ) ) المقدسة ( ( وغير ما ) ) زائدة لتأكيد النفي ( ( الأسماء ) ) أي غير أسمائه تعالى ، فإنها قديمة كالذات ( ( و ) ) وغير ( ( الصفات ) ) الذاتية والخبرية التي ثبتت في الكتاب والسنة الفعلية ، فكل شيء غير الذات العلية وأسمائها وصفاتها ( ( مخلوقة لربنا ) ) تبارك وتعالى ( ( من العدم ) ) ، مسبوقة به ، وتبين لك حكمة تعبير الناظم بسائر لأنها بمعنى البقية ، قال في القاموس : والسائر الباقي لا الجميع كما توهم جماعات ، أو قد يستعمل له ، ومنه قول الأحوص :

فجلتها لنا لبابة لما     وقذ النوم سائر الحراس

.

قال : وضاف أعرابي قوما فأمروا الجارية بتطييبه ، فقال :

بطني عطري     وسائري ذري

.

فكل ما سواه سبحانه بأسمائه وصفاته محدث مسبوق بالعدم ، وهذا المتفق عليه عند سلف الأمة وأئمتها من أن الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه ، وأنه خالق كل شيء بقدرته ومشيئته ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فهو سبحانه وتعالى خالق الممكنات المحدثات من الأجسام والأعراض القائمة بالحيوان والجماد والمعادن والنبات وغيرها .

وهذا الذي دلت عليه الكتب المنزلة ، وأخبرت به الرسل المرسلة وعليه سلف الأمة وأئمتها بل وعليه جماهير العقلاء وأكابرهم [ ص: 277 ] من جميع الطوائف خلافا لبعض الفلاسفة ، كأرسطو القائل بقدم العالم ، وخلافا لديمقراطيس القائل بقدم العلة والنفس والهيولى والخلاء والدهر . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( جواب المسائل الإسكندرية ) : قد نقلوا عن أساطين الفلاسفة المتقدمين أنهم كانوا يقرون بحدوث صورة الفلك ولكنهم مضطربون في المادة ومتنازعون فيها ، نعم أرسطو وأتباعه قائلون بقدم صورته .

قال : وليس لهم دليل صحيح على قدم شيء من العالم ألبتة ، ولهذا قال : ( ( وضل ) ) عن الصراط المستقيم ، والنهج البين القويم ( ( من ) ) أي شخص وكل ( ( إنسان من كل ) ) طائفة من طوائف العالم ( ( أثنى عليها ) أي على سائر الأشياء سوى الذات المقدسة وصفاتها القديمة ، فسائر ما عدا ذلك من أثنى على شيء منها ( ( بالقدم ) ) فقد ضل وأضل ، وقد أخبر الله في محكم الذكر بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام .

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " أي مقادير الخلائق التي خلقها في ستة أيام إلى أن يدخل أهل الجنة منازلهم ، وأهل النار منازلهم ، كما في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أول ما خلق الله القلم : فقال : اكتب قال وما أكتب ؟ قال ما هو كائن إلى يوم القيامة " فقد بين أن القلم الذي هو أول المخلوقات من هذا العالم إنما كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهذا هو التقدير المذكور في قوله قدر مقادير الخلائق .

وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب أصحابه فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم ، وأهل النار منازلهم .

وقد جاء عن الصحابة والتابعين من الآثار والأخبار من هذا النهج شيء كثير ، وفي التوراة ما يوافق الكتاب والسنة من ذكر الماء الذي كان مخلوقا قبل أن يخلق السماوات والأرض ، وأن الله خلق السماء من بخار ذلك الماء . وذلك البخار هو الدخان المذكور في قوله تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين والعرش أيضا خلق [ ص: 278 ] قبل ذلك كما دل عليه الكتاب والسنة

قال شيخ الإسلام في الأجوبة الإسكندرية : قد أخبرت الكتب الإلهية أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، فتلك الأيام الستة مقدرة بحركة الشمس والقمر ، فإنه فيها خلق الشمس والقمر والأفلاك ، وسواء كانت بقدر هذه الأيام ، أو كان كل يوم بقدر ألف سنة فعلى القولين ، ليس مقدار هذه الحركات ما خلق فيها ، والحاصل أن الكتب الإلهية ، والسنة النبوية ، وإجماع المسلمين على أن الله خالق كل شيء ، فإن كل ما سوى الله مخلوق . قال شيخ الإسلام : وصفاته تعالى ليست خارجة عن مسمى اسمه . وتقدم .

قال شيخ الإسلام : وليس بين أهل الملل خلاف في أن الملائكة جميعهم مخلوقون ، وفي صحيح مسلم وغيره من حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " .

وقال الإمام المحقق شمس الدين ابن القيم في كتابه ( إغاثة اللهفان ) ، وشيخه شيخ الإسلام في ( شرح الأصبهانية ) : أول من عرف عنه القول بقدم العالم أرسطو ، وكان ضالا مشركا يعبد الأصنام - يعني المصورات في هياكلهم على صور الكواكب السيارة .

قال : وله في الهيئات كلام كله خطأ ، قد تعقبه في الرد عليه طوائف المسلمين حتى الجهمية والمعتزلة والقدرية والرافضة وفلاسفة الإسلام أنكروه عليه .

قال ابن القيم : قد جاء في كلامه بما يسخر منه العقلاء ، فأنكر أن يكون الله تعالى يعلم شيئا من الموجودات ، وقرر ذلك بأن لو علم شيئا لكمل بمعلوماته ، ولم يكن كاملا في نفسه ، وبأنه كان يلحقه التعب والكلال من تصور المعلومات .

قال المحقق ابن القيم - يسخر به ويهزأ منه : فهذا غاية عقد هذا المعلم والأستاذ ، وقد حكى عنه ذلك أبو البركات البغدادي ، فيلسوف الإسلام ، وبالغ في إبطال هذه الحجج وردها . قال ابن القيم : فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لاتباعه الكفر بالله ، وملائكته وكتبه واليوم الآخر ، ودرج على أثره أتباعه من الملاحدة ممن يتستر باتباع الرسل ، وهو منحل من كل ما جاءوا به .

قال : وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء - عليهم السلام - ، ويرون عرض ما جاءت به الأنبياء على كلامه ، فما وافقه منها قبلوه ، وما خالفه لم يعبئوا به [ ص: 279 ] شيئا ، ويسمونه المعلم الأول ، لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية ، والمعلم الثاني من الفلاسفة أبو نصر الفارابي ، إلا أنه من فلاسفة الإسلام ، وهو الذي وضع لهم التعاليم الصوتية ، ووسع لهم في صناعة المنطق وبسطها ، وشرح فلسفة أرسطو وهذبها ، وبالغ في ذلك ، وكان على طريقة سلفه ، والمعلم الثالث أبو علي بن سينا ، فإنه بالغ في تهذيب الفلسفة وقربها من شريعة الرسل ودين الإسلام بجهده وغاية ما أمكنه .

قال الإمام ابن القيم : وحسبك جهلا بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله من يقول إنه سبحانه وتعالى لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب ، واستكمل بغيره ، وحسبك خذلانا وضلالا وعمى السير خلف هؤلاء ، وإحسان الظن بهم ، وأنهم ذوو العقول ، وحسبك عجبا من جهلهم وضلالهم ما قالوه في سلسلة الموجودات ، وصدور العالم عن العقول العشرة والنفوس التسعة ، إلى أن أنهوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة لا علم له بما صدر عنه ، ولا قدرة له عليه ولا إرادة ، وأنه لم يصدر عنه إلا واحد .

قال ابن القيم : وصرح أفلاطون بحدوث العالم كما كان عليه الأساطين ، وحكى عنه ذلك تلميذه أرسطو ، وخالفه فيه ، فزعم أنه قديم ، وتبعه على ذلك ملاحدة الفلاسفة من المنتسبين إلى الملل وغيرهم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - : ليس لأرسطو ولا لأتباعه ولا غيرهم حجة واحدة تدل على قدم شيء من العالم أصلا ، وقد قدمنا قول شيخ الإسلام وغيره : إن أول من قال بقدم العالم من الفلاسفة هو أرسطو ، قال شيخ الإسلام : وأما الأساطين قبله فلم يكونوا يقولون بقدم صورة الفلك ، وإن كان لهم في المادة أقوال أخر .

والحاصل أن الحق الذي لا ريب فيه ولا شك يعتريه أن الله تعالى خالق لكل ما سواه فليس معه شيء قديم بقدمه ، ولا نفس ولا عقل ولا غيرهما . قال في ( إغاثة اللهفان ) : والفلاسفة فرق شتى لا يحصيهم إلا الله ، وأحصى المعتنون بمقالات الناس منهم اثنتي عشرة فرقة مختلفة اختلافا كثيرا ، منهم أصحاب الرواق ، وأصحاب الظلة ، والمشاؤون وهم شيعة أرسطو ، وفلسفتهم هي الدائرة اليوم بين الناس ، وهي التي يحكيها ابن سينا ، والفارابي ، وابن الخطيب ، وغيرهم ، ومنهم الفيثاغورية والأفلاطونية ، قال : ولا نجد منهم اثنين متفقين على رأي [ ص: 280 ] واحد بل قد تلاعب بهم الشيطان كتلاعب الصبيان بالكرة ، قال : وبالجملة فملاحدتهم هم أهل التعطيل المحض ، فإنهم عطلوا الشرائع ، وعطلوا المصنوع عن الصانع ، وعطلوا الصانع عن صفات كماله ، وعطلوا العالم عن الحق الذي خلق له وبه ، فعطلوه عن مبدئه ومعاده عن فاعله في غايته ، ثم سرى هذا الداء منهم في الأمم ، وفي فرق المعطلة أولا وآخرا . ولهذا قال : ( وضل من أثنى عليها بالقدم ) فهؤلاء هم الضلال ومن نحا نحوهم من الفرق الضالة ، والله على كل شيء قدير .

التالي السابق


الخدمات العلمية