لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
الثالث : في بعض ما ورد في ذم القدرية من الآثار ، والأخبار ، وما رده عليهم من الصحابة الأخيار ، والأئمة الأبرار . روى مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي عن يحيى بن يعمر ، قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين ، أو معتمرين ، فقلنا : لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي ، أحدنا عن يمينه ، والآخر عن شماله ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ، فقلت : أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتفقدون العلم - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف ، فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر - ثم ساق حديث جبريل - عليه السلام - وفيه " وتؤمن بالقدر خيره وشره - زاد في رواية - وحلوه [ ص: 303 ] ومره " الحديث ، وفي راوية أبي داود عن يحيى بن يعمر ، وحميد بن عبد الرحمن قالا : لقينا ابن عمر فذكرنا له القدر وما يقولون فيه فذكرا نحوه ، وزاد قال : وسأله رجل من مزينة ، أو جهينة فقال : يا رسول الله فيم نعمل ؟ في شيء خلا ومضى ، أو شيء مستأنف ؟ " قال : في شيء خلا ومضى - فقال الرجل ، أو بعض القوم : ففيم العمل ؟ قال : " إن أهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة ، وإن أهل النار ميسرون لعمل أهل النار " وعند أبي داود أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وأصله في الصحيحين ، وفيه قال : يا محمد أخبرني عن الإيمان قال : " أن تؤمن بالله وملائكته ، والكتاب ، والنبيين ، وتؤمن بالقدر " قال : فإذا فعلت ذلك فقد آمنت ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نعم " قال : صدقت .

وأخرج الترمذي من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني محمد رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر " .

وفي صحيح مسلم عن أبي الأسود الدؤلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قضي عليهم ، ومضى عليهم من قدر قد سبق ، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم ، ويثبت الحجة عليهم ؟ فقلت : بل شيء مضى عليهم ، وقضي عليهم . قال : فقال : فلا يكون ظالما ؟ قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا ، وقلت : كل شيء خلق الله وملك الله فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون . فقال : رحمك الله ، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك ، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا : يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون ، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم ؟ وتصديق ذلك في كتاب الله - تعالى - : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وفي أوسط الطبراني عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا " القدر نظام التوحيد ، فمن وحد الله وآمن بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى " وأخرج أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعا " القدر سر الله " وفي الجامع الكبير عن الحارث ، قال : جاء [ ص: 304 ] رجل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : طريق مظلم لا تسلكه ، قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : بحر عميق لا تلجه ، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : سر الله خفي عليك فلا تفشه ، قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر - وساق الكلام في جواب السائل ، إلى أنه قال : أيها السائل تقول : لا حول ولا قوة إلا بمن ؟ قال : إلا بالله العلي العظيم ، قال : أفتعلم ما في تفسيرها ؟ قال : تعلمني مما علمك الله يا أمير المؤمنين ، قال : إن تفسيرها لا يقدر على طاعة الله ، ولا تكون له قوة في معصية الله ، في الأمرين جميعا إلا بالله ، أيها السائل ألك مع الله مشيئة ، أو فوق الله مشيئة ، أو دون الله مشيئة ؟ فإن قلت : إن لك دون الله مشيئة ، اكتفيت بها عن مشيئة الله ، وإن زعمت أن لك فوق الله مشيئة ، فقد ادعيت أن قوتك ومشيئتك غالبتان على قوة الله ومشيئته ، وإن زعمت أن لك مع الله مشيئة ، فقد ادعيت مع الله شركا في مشيئته . الأثر المروي بطوله ، والأخبار والآثار في هذا الباب كثيرة جدا .

وأما ذم القدرية فقد أخرج أبو داود في سننه ، والحاكم في مستدركه عن أبي عبد الرحمن بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " القدرية مجوس هذه الأمة " ورواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم ، قال الحافظ ابن حجر : ورجاله من رجال الصحيحين ، لكن ذكر الحافظ المنذري أن في سنده انقطاعا ، وقد أجاب عنه بأن أبا الحسن بن القطان الفاسي الحافظ صحح سنده ، وقال : إن أبا حازم عاصر ابن عمر وكان معه بالمدينة ، ومسلم يكتفي في الاتصال بالمعاصرة ، فهو صحيح على شرط مسلم . قلت : وقد أخرج الحديث الإمام الحافظ ابن الجوزي في كتابه " الموضوعات " من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن لكل أمة مجوسا ، ومجوس هذه الأمة القدرية ، فلا تعودوهم إذا مرضوا ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا " رواه ابن عدي .

وحكم عليه بالوضع ، وتعقبه الجلال السيوطي بأن جعفر بن الحارث الذي أعله به قد وثقه ابن عدي ، فقال : لم أر في أحاديثه حديثا منكرا ، أرجو أنه لا بأس [ ص: 305 ] به . وقال البخاري : حفظه سيئ يكتب حديثه ، والحديث ورد بهذا اللفظ من حديث حذيفة أخرجه أبو داود ، وجابر بن عبد الله أخرجه ابن ماجه ، وعبد الله بن عمر أخرجه الإمام أحمد ، والبخاري في تاريخه في الأوسط ، واللالكائي في السنة ، بعضها على شرط الصحيح ، وسهل بن عبد الله أخرجه الطبراني في الأوسط ، واللالكائي أيضا ، وأنس أخرجه الطبراني ، وابن عباس أخرجه اللالكائي ، وورد عن عمر موقوفا أخرجه اللالكائي .

وأقول : قد روى الطبراني في الكبير وابن حبان في صحيحه ، والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد ، قال الحافظ المنذري : ولا أعرف له علة عن أم المؤمنين عائشة الصديقة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ستة لعنتهم ولعنهم كل نبي مجاب : الزائد في كتاب الله - عز وجل ، والمكذب بقدر الله ، والمتسلط على أمتي بالجبروت ليذل من أعز الله ويعز من أزل الله ، والمستحل حرمة الله ، والمستحل من عترتي ما حرم الله ، والتارك للسنة " وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا " تكون قدرية ثم تكون زنادقة ثم تكون مجوس ، وإن لكل أمة مجوسا ، وإن مجوس أمتي المكذبة بالقدر ، فإن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ، ولا تتبعوا لهم جنازة " قال الخاطبي : إنما جعلهم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين ، وهما النور والظلمة ، يزعمون أن الخير من فعل النور ، والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية ، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله ، والشر إلى غيره ، والله - تعالى - خالق الأمرين معا .

وكذا قال ابن الأثير في جامع الأصول : القدرية في إجماع أهل السنة والجماعة هم الذين يقولون : إن الخير من الله ، والشر من الإنسان ، وإن الله لا يريد أفعال العصاة ، وسموا بذلك ; لأنهم أثبتوا للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله - تعالى - ، ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه ، قال : وهؤلاء مع ضلالتهم يضيفون الاسم إلى مخالفهم من أهل الهدى ، فيقولون : أنتم القدرية حين تجعلون الأشياء جارية بقدر من الله ، وإنكم أولى بهذا [ ص: 306 ] الاسم منا لأنكم تثبتون القدر ، ونحن ننفيه ، ومثبته أحق بالنسبة إليه من نافيه ، فأنتم الداخلون تحت وعيد الحديث دوننا . فأجابهم المثبتون بأنكم أولى بذلك ; لأنكم تثبتون القدر لأنفسكم ونحن ننفيه عن أنفسنا ، ومثبت الشيء لنفسه أولى بالنسبة إليه ممن نفاه عن نفسه ، وأيضا هذا الحديث يبطل ما قالوه ، فإنه قال - صلى الله عليه وسلم - : " القدرية مجوس هذه الأمة " ومعنى ذلك أنهم لمشابهتهم المجوس في مذهبهم وقولهم بالأصلين ، وهما النور والظلمة .

وتقدم كلام شيخ الإسلام ، فلا يهمل ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية