لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( ( الرابع : ) )

تصح التوبة في المعتمد من ذنب مع الإصرار على آخر عند السلف والخلف ، وقالت طائفة من متكلمي المعتزلة كأبي هاشم بن أبي علي الجبائي : لا تصح التوبة إلا من الجميع ، وحكى القاضي وابن عقيل رواية عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - تدل على مثل هذا والمعروف من مذهبه هو الأول ، وما روي عنه محمول على أنها ليست توبة تجعله تائبا مطلقا ، فإن الذي ذكره المروذي عنه أنه سئل عمن تاب عن الفاحشة ، ولم يتب عن النظر ، فقال : أي توبة ذه ؟ وهذا لا يعطي ما قالوه عنه ، وإنما أراد أنها ليست توبة عامة ، فإن نصوصه المتواترة عنه خلاف ذلك ، فحمل كلامه على ما توافقه أولى لا سيما إذا كان القول الآخر مبتدعا لا يعرف له سلف كما قاله شيخ الإسلام في [ ص: 384 ] فتاويه ، قال : والإمام أحمد - رضي الله عنه - من أشد الناس توصية بالسنة ، والاتباع ، وتوصية باتباع السلف ، وترك الابتداع ، قال شيخ الإسلام : ومن تاب من بعض ذنوبه فالتوبة تقتضي مغفرة ما تاب منه فقط ، قال : وما علمت فيه نزاعا إلا في الكافر إذا أسلم فإن إسلامه يغفر له الكفر ، وهل يغفر له الذنوب التي فعلها في حال كفره ، ولم يتب منها في الإسلام ؟ على قولين معروفين ، الصحيح أنه إذا لم يتب من الذنب بقي على حكمه ولا يغفر إلا بمشيئة الله - تعالى ، كغيره من المسلمين الذين عملوا في الإسلام . انتهى .

وإذا تاب الإنسان توبة عامة ، فهي تتناول كل ما رآه ذنبا ; لأن التوبة العامة تتضمن عزما لفعل المأمور وترك المحظور ، وكذلك تتضمن ندما عاما على كل محظور ، والندم سواء قيل إنه من باب الاعتقادات ، أو من باب الإرادات ، أو من باب الآلام التي تلحق النفس بسبب فعل ما يضرها ، فإذا استشعر القلب أنه فعل ما يضره حصل له معرفة بأن الذي فعله كان من السيئات ، وهذا من باب الاعتقادات ، وكراهة ما كان فعله وهو من جنس الإرادات ، وحصل له أذى وغم لما كان فعله ، وهذا من باب الآلام كالغموم والأحزان ، وعلى كل فمن تاب توبة عامة كانت مقتضية لغفران الذنوب كلها ، وإن لم يستحضر أعيان الذنوب إلا أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه لقوة إرادته ، أو لاعتقاده أنه حسن فلا يدخل في التوبة .

وقال الإمام النووي : إنها تصح من ذلك الذنب عند أهل الحق ، وهو الذي ذكره القرطبي أنه خلاف قول المعتزلة ، يعني صحة التوبة من بعض الذنوب دون بعض . قال العلامة ابن مفلح في الآداب : أما صحة التوبة عن بعض الذنوب ، فهي أصل السنة ، وإنما يمنع صحتها المعتزلة القائلون بالإحباط ، وأنه لا تنفع طاعة مع معصية ، فأما من صحح الطاعة مع المعاصي صحح التوبة من بعض المعاصي . وقال ابن عقيل في الفنون : قال بعض الأصوليين : لا تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ، فإن الإنسان لو قتل لإنسان ولدا وأحرق له بيدرا ، ثم اعتذر عن إحراق البيدر دون قتل الولد لم يعد اعتذارا ، وهذا أحد الروايتين عن الإمام أحمد - رضي الله عنه ، والمعتمد الصحة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية