لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الرحمن الرحيم ) اسمان مشتقان من رحم بجعله لازما ، بنقله إلى باب فعل بضم العين ، أو بتنزيله منزلة اللازم ، إذ هما صفتان مشبهتان ، وهي لا تشتق من متعد ، والرحمن أبلغ من الرحيم ; لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى غالبا ، كما في قطع وقطع ، ومن غير الغالب قد يفيد ناقص البناء ما لا يفيده زائده من المبالغة ، كحذر وحاذر ، فإن حذرا أبلغ من حاذر ، فالرحمن صفة في الأصل بمعنى كثير الرحمة جدا ، ثم غلب على البالغ في الرحمة غايتها وهو الله ، والرحيم ذو الرحمة الكثيرة ، وأتى به بعد الرحمن الدال على جلائل النعم إشارة إلى أن ما دل عليه من دقائق الرحمة وإن ذكر بعدما دل على جلائلها الذي هو المقصود الأعظم هو مقصود أيضا ، ولئلا يتوهم أنه غير ملتفت إليه .

وقال بعض الصوفية : الرحمن هو المحسن بإعطاء الأمور الملكوتية ، مثل : الروح والعقل والإيمان والشهوة والقدرة ونحوها ، وقيل : هو المحسن في الدنيا لعموم إحسانه ; لأنه يعم بإحسانه المسلم والكافر وغيرهما ، والرحيم بالضد ، فباعتبار كون الرحمن للدنيا يكون الرحيم للآخرة ، وبكونه للملكوتية يكون الرحيم لعالم الشهادة من إعطاء المأكول والمشروب والملبوس إلى غير [ ص: 32 ] ذلك . فإن قيل : إذا كان الرحمن الرحيم اسمين ، فكيف أعربا نعتا لله - تعالى ، والأعلام لا ينعت بها ؟ قيل : قد قال هذا قوم ، وأعربوهما على أنهما بدل ، وقال السهيلي : البدل ممتنع أيضا كعطف البيان ; لأن الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين ; لأنه أعرف المعارف كلها وأبينها ، ولهذا قالوا : وما الرحمن ؟ ولم يقولوا : وما الله ؟ قال السهيلي : لكنه وإن أجري مجرى الأعلام ، فهو وصف يراد به الثناء ، وكذلك الرحيم ، وقال المحقق ابن القيم في ( بدائع الفوائد ) : أسماء الرب - تعالى - أسماء ونعوت ، فإنها دالة على صفات كماله ، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية ، فالرحمن اسمه - تعالى ووصفه ، لا ينافي اسميته وصفيته ، فمن حيث هو صفة جرى تابعا على اسم الله ، ومن حيث هو اسم ، ورد في القرآن غير تابع . يعني كقوله - تعالى : ( الرحمن علم القرآن ) ( الرحمن على العرش استوى ) ( أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن ) ، وهذا شأن الاسم العلم ، ولما كان هذا الاسم مختصا به - تعالى - حسن مجيئه مفردا غير تابع ، كمجيء اسمه " الله " كذلك ، وهذا لا ينافي دلالته على صفة الرحمة كاسمه " الله " ، فإنه دال على صفة الألوهية . ولم يجئ قط تابعا لغيره ، بل متبوعا بخلاف العليم والقدير ، والسميع والبصير ، ولهذا لا تجيء هذه ونحوها مفردة ، بل تابعة .

قال ابن القيم - روح الله روحه : وأما الجمع بين الرحمن الرحيم ففيه معنى بديع ، وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به - سبحانه ، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم ، وكأن الأول الوصف والثاني الفعل ، فالأول دال على أن الرحمة صفته ، أي صفة ذات له - سبحانه ، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته ، أي صفة فعل له - سبحانه ، فإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله - تعالى : ( وكان بالمؤمنين رحيما ) ( إنه بهم رءوف رحيم ) ، ولم يجئ قط رحمن بهم ، فعلمت بهذا أن رحمن هو الموصوف بالرحمة ، ورحيم هو الراحم برحمته . قال - رحمه الله تعالى : وهذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب ، وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم تتجل لك صورتها . انتهى . ورحمة الله - جل شأنه وتعالى سلطانه - صفة قديمة قائمة بذاته - تعالى - تقتضي التفضيل والإنعام ، وأما تفسيرها برقة في القلب تقتضي التفضيل ، فالتفضيل غايتها ، فيراد منها غايتها [ ص: 33 ] كما يقوله من يقوله من المتكلمة ، كالزمخشري في كشافه ، وغيره من النظار ، فهذا إنما يليق برحمة المخلوق ، لا برحمة الخالق - تعالى وتقدس ، وبينهما بون . ونظير ذلك العلم ، فإن حقيقة علمه - تعالى - القائمة به ليست مثل الحقيقة القائمة بالمخلوق ، بل نفس الإرادة التي يرد بعضهم الرحمة إليها ، هي في حقه - تعالى - مخالفة لإرادة المخلوق ، إذ هي في المخلوق ميل قلبه إلى الفعل أو الترك ، والله منزه عن ذلك ، وكذلك رد الزمخشري لها في حقه - تعالى - إلى الفعل بمعنى الإنعام والتفضيل ، فإن فعل العبد الاختياري إنما يكون لجلب نفع للفاعل ، أو دفع ضرر عنه ، ولا كذلك فعله - تعالى ، فما فرضه أهل التأويل موجود فيما فروا إليه من المحذور ، وبهذا ظهر أنه لا حاجة إلى دعوى المجاز في رحمته - تعالى ، فإنه خلاف الأصل ، وهو إنما يصار إليه عند تعذر حمل الكلام على حقيقته ، ولا تعذر هنا كما لا يخفى .

وأيضا معيار المجاز صحة نفيه ، كما إذا قيل : زيد أسد ، أو بحر ، أو قمر ، لشجاعته ، أو كرمه ، أو حسنه ، فإنه يصح أن تقول : زيد ليس بأسد ، أو ليس ببحر ، أو ليس بقمر ، وهذا مما لا خلاف فيه بينهم ، ولا يصح أن يقال : الله ليس برحيم ، فلو كانت الرحمة مجازا في حقه - تعالى - لصح ذلك . ولا ريب أن الرحمة صفة كمال ، وسائر الكتب السماوية مملوءة بذكرها وإطلاقها عليه - تعالى ، ومن العجب أن تكون هذه الصفة العظيمة حقيقة في حق المخلوق ، مجازا في حق الخالق . والحاصل أن الصفة تارة تعتبر من حيث هي هي ، وتارة تعتبر من حيث قيامها به - تعالى . وتارة من حيث قيامها بغيره تعالى . وليست الاعتبارات متماثلة ، إذ ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، والكلام على الصفات فرع عن الكلام في الذات ، فكما أنا نثبت ذاتا ليست كالذوات ، فلنثبت رحمة ليست كرحمة المخلوق ، كما أشار إلى ذلك وقرره ونبه عليه وحرره ابن القيم - رحمه الله - في البدائع .

التالي السابق


الخدمات العلمية