لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 4 ] المقدمة المشتملة على عدة تعريفات .

( التعريف الأول )

اعلم أن الملة المحمدية تنقسم إلى اعتقاديات وعمليات ، فالاعتقاديات هي التي لم تتعلق بكيفية عمل ، مثل : اعتقاد وجوب وجود القادر المختار ووحدانيته ، وتسمى أصلية أيضا . والعمليات هي ما يتعلق بكيفية العمل ، وتسمى فرعية ، فالمتعلق بالعملية علم الشرائع والأحكام ; لأنها لا تستفاد إلا من ( جهة ) الشرع ، فلا يسبق الفهم عند إطلاق الأحكام إلا إليها ، والمتعلق بالاعتقاديات هو علم التوحيد والصفات ، وعلم الكلام ، وعلم أصول الدين . ولما كان هذا العلم أهم لابتناء العمليات عليه أوردوا البراهين والحجج عليه ، واكتفوا في العمليات بالظن المستفاد من الأدلة السمعية ، ولما كان عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان خاليا من البدع الكلامية ، والشبه الخيالية ، والخصوم المعتزلية ، لم تكن أدلة علم أصول الدين مدونة هذا التدوين ، فلما كثرت الشبه والبدع ، وانتشر الاختلاف بين أهل العلم وفشا وسطع ، وصار كل إمام بدعة له نحلة يعول عليها ، وعقيدة يدعو الناس إليها ، وأوضاع يرجع في مهماته إليها ، دون علماء الكلام قواعده المعلومة ، وأوضاعه المفهومة ، لدفع الشبه والخصوم ، وردهم عن تهافتهم إلى الصواب المعلوم ، عن النبي المعصوم .

وعلم الكلام هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية أي المنسوبة إلى دين النبي صلى الله عليه وسلم - وإن لم تكن مطابقة للواقع ; لعدم إخراج الخصم من المعتزلة والجهمية ، والقدرية والجبرية ، والكرامية وغيرهم ، عن أن [ ص: 5 ] يكون من علماء الكلام ، وإن خطأناه أو كفرناه . ( وقيل ) : تعريف علم الكلام الذي هو التوحيد وأصول الدين : العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية ، أي العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة من أدلتها اليقينية ، سواء توقفت على الشرع كالسمعيات أم لا ، وسواء كانت من الدين في الواقع ككلام أهل الحق أو لا ككلام المخالف ، واعتبر في أدلتها اليقين ; لأنه لا عبرة بالظن في الاعتقاديات بل في العمليات ، " وموضوعه " هو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية ، إذ موضوع كل علم ما يبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتية ، ولا شك أنه يبحث في هذا العلم عن أحوال الصنائع ، من القدم والوحدة ، والقدرة والإرادة وغيرها ليعتقد ثبوتها له تعالى ، وأحوال الجسم والعرض من الحدوث والافتقار والتركيب من الأجزاء ، وقبول الفناء ونحو ذلك ليثبت للصانع ما ذكر مما هو عقيدة إسلامية ، أو وسيلة إليها .

وكل هذا بحث عن أحوال المعلوم كإثبات العقائد الدينية ، وهذا أولى من زعم أن موضوعه ذات الله - تعالى وتقدس - للبحث عن صفاته وأفعاله ، واعلم أنا لا نأخذ الاعتقادات الإسلامية من القواعد الكلامية ، بل إنما نأخذها من النصوص القرآنية والأخبار النبوية ، وليس القصد بالأوضاع الكلامية إلا دفع شبه الخصوم والفرق الضالة عن الطرق الحقيقية ، فإنهم طعنوا في بعض منها بأنه غير معقول ، فبين لهم بالقواعد الكلامية معقولية ذلك البعض .

( واستمداد ) هذا الفن من الكتاب المنزل ، والتفسير والحديث الثابت ، والفقه والإجماع والنظر . ( ومسائله ) القضايا النظرية الشرعية الاعتقادية . ( وغايته ) أن يصير الإيمان والتصديق بالأحكام الشرعية متقنا محكما لا تزلزله شبهة من شبه المبطلين . ( ومنفعته ) في الدنيا انتظام أمر المعاش بالمحافظة على العدل والمعاملة التي يحتاج إليها في إبقاء النوع الإنساني على وجه لا يؤدي إلى الفساد ، وفي الآخرة النجاة من العذاب المرتب على الكفر وسوء الاعتقاد . وسيأتي حد كل بحث من هذا عند ذكره في النظم إن شاء الله - تعالى ، والله - تعالى - الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية