لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( النفخة الثالثة ) :

نفخة البعث والنشور ، وقد جاء في الكتاب العزيز آيات تدل عليها ، وأخبار تشير إليها كقوله تعالى :

( ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) ، وقوله :

( ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) - ( فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ) قال الكلبي وغيره : هي نفخة البعث ، والناقور فاعول من النقر ، وقوله تعالى :

( واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ) الآية ، قال المفسرون :

المنادي هو إسرافيل عليه السلام ، ينفخ في الصور وينادي أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، واللحوم المتمزقة ، والشعور المتفرقة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء .

وقيل : ينفخ إسرافيل ، وينادي جبريل ، والمكان القريب صخرة بيت المقدس . قاله جماعة من المفسرين .

وبين النفختين أربعون عاما - قال بعض العلماء : اتفقت الروايات على ذلك .

وفي [ ص: 165 ] مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : ما بين النفختين أربعون . قالوا :

يا أبا هريرة أربعون يوما ؟ قال :

أبيت ، قالوا :

أربعون شهرا ؟ قال :

أبيت ، قالوا :

أربعون عاما ؟ قال :

أبيت - الحديث ، وقول أبي هريرة - رضي الله عنه - " أبيت " فيه ثلاث تأويلات :

أولها : امتنعت من بيان ذلك لكم ، وقيل : أبيت أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، وقيل : نسيت ، وقيل : إن سر ذلك لا يعلمه إلا الله ؛ لأنه من أسرار الربوبية .

وفي حديث أن بين النفختين أربعون عاما ، وفي تفسير الثعلبي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في تفسير سورة الزمر مرفوعا " إن الله يرسل مطرا على الأرض فينزل عليهم أربعون يوما حتى يكون فوقهم اثني عشر ذراعا ، فيأمر الله تعالى الأجساد أن تنبت كنبات البقل ، حتى إذا تكاملت أجسادهم كما كانت قال الله تعالى : ليحيا حملة العرش ، ليحيا جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه ، ثم يدعوا الأرواح فيؤتى بها ، تتوهج أرواح المؤمنين نورا والأخرى ظلمة فيقبضها جميعا ، ثم يلقيها في الصور ، ثم يأمره أن ينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كلها كأنها النحل قد ملئت ما بين السماء والأرض ، ثم يقول الله تعالى :

وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها ، فتدخل الأرواح من الخياشيم ثم تمشي مشي السم في اللديغ ، ثم تشق الأرض عنهم سراعا ، فأنا أول من تنشق عنه الأرض ، فتخرجون منها إلى ربكم تنسلون
" ، وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما بين النفختين أربعون " قيل : أربعون يوما ؟ قال أبو هريرة : أبيت ، قال : أربعون شهرا ؟ قال : أبيت ، قال : أربعون سنة ؟ قال : أبيت ، " ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ، وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد ، وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة " . وفي رواية لمسلم " أن في الإنسان عظمة لا تأكلها الأرض أبدا فيه يركب الخلق يوم القيامة . قالوا : أي عظم هو يا رسول الله ؟ قال : عجب الذنب " . ورواه الإمام مالك ، وأبو داود ، والنسائي باختصار ، قال :

" كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب ، منه خلق ، وفيه يركب " . قال الحافظ المنذري كغيره : عجب الذنب بفتح العين المهملة [ ص: 166 ] وإسكان الجيم بعدهما باء موحدة أو ميم ، وهو العظم الحديد الذي يكون في أسفل الصلب ، وأصل الذنب من ذوات الأربع .

وقد روى الإمام أحمد ، وابن حبان في صحيحه من حديث ابن سعيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه " قيل :

وما هو يا رسول الله ؟ قال : " مثل حبة خردل منه تنبتون " ، وفي الثعلبي في تفسير سورة الأعراف ، وتفسير ابن عطية عن أبي هريرة - رضي الله عنهم : إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى يعني - نفخة الصعق - أمطر عليهم أربعين عاما كمني الرجال من ماء تحت العرش - يعني ماء الحيوان - فينبتون من قبورهم بذلك المطر كما ينبت الزرع من الماء ، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ، ثم يلقي عليهم نومة فينامون في قبورهم ، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم في أعينهم كما يجده النائم إذا استيقظ من نومه ، عند ذلك يقولون : ياويلنا من بعثنا من مرقدنا .

وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :

" أنا سيد ولد آدم ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مشفع " . وفي صحيح البخاري " أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة ، فإذا بموسى عليه السلام متعلق بالعرش ، فلا أدري أكذلك كان أم بعد النفخة ؟ " - وفي بعض ألفاظ البخاري - فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ؟ " ، وأخرج الحكيم ، والترمذي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال خرج النبي - صلى الله عليه وسلم ، ويمينه على أبي بكر ، وشماله على عمر فقال : هكذا نبعث يوم القيامة .

وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رجلا قال : يا رسول الله قال الله تعالى ( الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم ) أيحشر الكافر على وجهه ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه ؟ .

وقال قتادة حين بلغه : بلى وعزة ربنا ، وروى النسائي ، والترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :

" يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون [ ص: 167 ] من عصارة أهل النار طينة الخبال " . وروى البزار من حديث جابر - رضي الله عنه - مرفوعا " يبعث الله يوم القيامة ناسا في صور الذر يطؤهم الناس بأقدامهم فيقال ما هؤلاء في صور الذر ؟ فيقال :

هؤلاء المتكبرون في الدنيا
، وروى الإمام أحمد في الزهد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا " يجاء بالجبارين ، والمتكبرين يوم القيامة رجال في صورة الذر تطؤهم الناس من هوانهم على الله حتى يقضى بين الناس ، قال : ثم يذهب بهم إلى نار الأنيار " قيل يا رسول الله ، وما نار الأنيار ؟ " قال عصارة أهل النار " . وروي عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :

" الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها " رواه أبو داود ، وابن حبان في صحيحه ، وفي إسناده يحيى بن أيوب ، وهو الغافقي المصري احتج به البخاري ومسلم وغيرهما وله مناكير ، قال أبو حاتم : لا يحتج به ، وقال الإمام أحمد : سيئ الحفظ ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وقد قال كل من وقفت على كلامه من أهل اللغة : إن المراد في ثيابه التي قبض فيها : أي في أعماله ، قال الهروي ، وهذا كحديثه الآخر :

يبعث العبد على ما مات عليه .

قال :

وليس قول من ذهب إلى الأكفان بشيء ؛ لأن الميت إنما يكفن بعد الموت . انتهى .

قال الحافظ المنذري ، وفعل أبي سعيد راوي الحديث يدل على إجرائه على ظاهره ، وأن الميت يبعث في ثيابه التي قبض فيها ، وفي الصحاح ، وغيرها : إن الناس يبعثون عراة . فالله أعلم ، وحمل كثير من العلماء الحديث على الشهداء الذين أمر أن يدفنوا في ثيابهم التي قتلوا فيها ، وأن أبا سعيد سمع الحديث في الشهداء فحمله على العموم .

قال البيهقي :

يجمع بأن بعضهم يحشر عاريا وبعضهم بثيابه ، أو يخرجون من قبورهم بثيابهم التي ماتوا فيها تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر .

وقد روى محمد بن نصر المروزي بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :

يحشر الناس يوم القيامة على قدر صنيعهم في الصلاة .

وفسره بعضهم بقبض شماله بيمينه ، والانحناء هكذا .

وبإسناده عن أبي صالح السمان : يبعث الناس يوم القيامة هكذا ، ووضع إحدى يديه على الأخرى .

نقله الحافظ ابن رجب في كتابه الذكر والانكسار ، والله أعلم :

التالي السابق


الخدمات العلمية