لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
" سبحانه " وتعالى ، وهو اسم بمعنى التسبيح الذي هو التنزيه ، وانتصابه بفعل متروك إظهاره ، ولا يخفى حسن موقعه هنا . أي هو - سبحانه وتعالى - منزه عن أن يخلق الخلق سدى ، أو يشاركه في إحداث شيء من الحوادث شريك ، بل هو الخالق المختار بلا حاجة ولا اضطرار بقدرة قاهرة لحكمة باهرة ، ولهذا قلنا ( فهو ) - تعالى - ( الحكيم ) ، أي المتقن لخلق الأشياء بحسن [ ص: 45 ] التدبير وبديع التقدير ، بحيث يخضع العقل لرفعته ، ويشهد بإتقان صنعته ، كما قال - تعالى : ( أحسن كل شيء خلقه ) ، وقال : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) ، والحكيم من أسمائه الحسنى ، وهو ذو الحكمة ، وهي إصابة الحق بالعلم .

فالحكمة منه - تعالى - علم الأشياء ، وإيجادها على غاية الإحكام ، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات ، وهذا الذي وصف به لقمان في قوله - تعالى : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) . قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في كتابه ( صيد الخاطر ) : العقل لا ينتهي إلى حكمة الخالق - سبحانه - وقد ثبت عنده وجوده وملكه وحكمته ، فتعرضه بالتفاصيل على ما تجري به عادات الخلق جهل . ثم قال : ألا ترى إلى أول المعترضين ، وهو إبليس اللعين ، كيف ناظر فقال : أنا خير منه . وقول أبي العلاء المعري :

رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا

. ثم قال : ويحك أحضر عقلك وقلبك واسمع ما أقول ، أليس قد ثبت أن الحق مالك ، وللمالك أن يتصرف كيف يشاء ؟ أليس قد ثبت أنه حكيم ، والحكيم لا يعبث ؟ . قال : وأنا أعلم أن في نفسك من هذه الكلمة شيئا ، فإنك قد سمعت عن جالينوس أنه قال : ما أدري أحكيم هو أم لا ؟ والسبب في قوله هذا أنه رأى نقضا بعد إحكام ، فقاس الحال على أحوال الخلق ، وهو أن من بنى ثم نقض لا لمعنى فليس بحكيم ، قال : وجوابه لو كان حاضرا أن يقال : بماذا بان لك أن النقض ليس بحكمة ؟ أليس بعقلك الذي وهبه الصانع لك ؟ فكيف يهب لك الذهن الكامل ويفوته هو الكمال ؟ وهذه المحنة التي جرت لإبليس ، فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله ، فلو فكر علم أن واهب العقل أعلى من العقل ، وأن حكمته أوفى من كل حكيم ; لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول ، فهذا إذا تأمله المنصف ، زال عنه الشك . انتهى .

ومراد الحافظ ابن الجوزي من كان ممن لا يرى طريقا إلى إدراك حكمته إلا بالعقل ، كيف وقد جاء في صحيح المنقول ما يوافق صريح المعقول من الكتاب والسنة ما لا يبقي في لب اللبيب أقل اختلاج وأدنى ريب ، والله أعلم بكل غيب . وهو ( الوارث ) أي الباقي بعد فناء الخلق ، والمسترد لأملاكهم ومواريثهم بعد موتهم ، قال - تعالى : ( إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون ) [ ص: 46 ] وقال - تعالى : ( وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ) ، فلا يبقى عليها ولا عليهم لأحد غيره - سبحانه - ملك ولا ملك ، ويقول الله - تعالى - في ذلك اليوم بعد فناء الخلق : ( لمن الملك اليوم ) ، ولا أحد يجيبه ، فيجيب نفسه فيقول : ( لله الواحد القهار ) . وسيأتي الكلام على دقائق تتعلق بالأسماء عند مباحثها ، إن شاء الله تعالى .

ثم إني بعد ابتدائي بالبسملة والحمدلة ، والثناء عليه - تعالى - بما هو أهله ، عقبته بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إظهارا لعظمة قدره ، وأداء لبعض حقوقه الواجبة ، إذ هو الواسطة بين الله وبين عباده ، وجميع النعم الواصلة إليهم التي من أعظمها الهداية للدين القويم إنما هي به وعلى يديه - صلى الله عليه وسلم ، وامتثالا لقوله - تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) ، واغتناما للثواب الوارد في قوله - صلى الله عليه وسلم : " من صلى علي في كتاب ، لم تزل الملائكة تستغفر له " . وفي رواية : تصلي عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب " . وللجمع بين الثناء على الله - تعالى - وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عليه ، فقلت :

التالي السابق


الخدمات العلمية