لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 175 ] ( الرابع ) اختلف عن المسئول عنه والمسئول ، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما :

عن لا إله إلا الله . وقال الضحاك :

عن خطاياهم . وقال القرطبي :

عن جميع أقوالهم وأفعالهم ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا - فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) قال الفخر الرازي :

ولا معنى لقول من يقول : إن السؤال إنما يكون عن الكفر والإيمان ، بل السؤال واقع عنهما وعن جميع الأعمال ؛ لأن اللفظ عام فيتناول الكل ، والضمير في قوله : لنسألنهم عائد على جميع المكلفين الأنبياء وغيرهم ، ويدل على سؤالهم صريحا قوله تعالى ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) فهذه الآية تدل على أنه يحاسب كل عباده ، لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا مرسلين أو مرسلا إليهم ، ويبطل قول من زعم أنه لا حساب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولا الكفار . انتهى .

والجواب أنه لا حساب على الأنبياء عليهم السلام على سبيل المناقشة والتقريع ، قال النسفي في بحر الكلام :

الأنبياء لا حساب عليهم ، وكذلك أطفال المؤمنين ، وكذلك العشرة المبشرين بالجنة .

هذا حساب المناقشة ، وعموم الآيات الكريمة مخصوص بأحاديث من يدخل الجنة بغير حساب ، ولهذا قال علماؤنا في عقائدهم :

ويحاسب المسلمون المكلفون إلا من شاء الله أن يدخل الجنة بغير حساب ، وكل مكلف مسئول ، يسأل من شاء من الرسل عن تبليغ الرسالة ، ومن شاء من الكفار عن تكذيب الرسل .

قال شيخ مشايخنا البدر البلباني في عقيدته :

الكفار لا يحاسبون بمعنى أن صحائف أعمالهم لا توزن ، وإن فعل كافر قربة من نحو عتق أو صدقة أو ظلمه مسلم رجونا له أن يخفف عنه العذاب . انتهى .

ولعل مراده غير عذاب الكفر . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية :

يحاسب الله تعالى الخلق ، ويخلو بعبده المؤمن ، ويقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة . قال :

وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته ، وسيئاته فإنهم لا حسنات لهم ، ولكن تعد أعمالهم وتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها . انتهى .

وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه : ما من عبد يخطو خطوة إلا ويسأل عنها ما أراد بها ، وعن أبي [ ص: 176 ] هريرة رضي الله عنه مرفوعا : إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة أن يقال له : ألم أصحح جسمك وأرويك الماء البارد ؟ والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسئلون عنه يوم القيامة ظل بارد ورطب وماء بارد " ، أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم والبغوي .

وأخرج الإمام أحمد والبيهقي وأبو نعيم عن الحسن مرفوعا : " ثلاث لا يحاسب بهن العبد : ظل خص يستظل به ، وكسرة يشد بها صلبه ، وثوب يواري به عورته " وأخرج البزار والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ثلاثة ليس عليهم حساب فيما طعموا إن شاء الله إذا كان حلالا : الصائم والمتسحر والمرابط فى سبيل الله " وأخرج البزار أيضا ، وأبو نعيم بسند حسن عن ابن عباس أيضا - رضي الله عنهما - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما فوق الإزار وجلف الخبز وظل الحائط وجر الماء فضل يحاسب به العبد يوم القيامة أو يسأل عنه " . وأخرج الإمام أحمد بسند جيد عن أبى عسيب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل حائطا لبعض الأنصار ومعه أبو بكر وعمر ، فجاء صاحب الحائط بعذق فوضعه ، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، ثم دعا بماء بارد فشرب فقال : " لتسألن عن هذا يوم القيامة " فقيل : يا رسول الله إنا لمسئولون عن هذا يوم القيامة ؟ قال : " نعم إلا من ثلاث : خرقة يكف بها عورته ، وكسرة يسد بها جوعته ، وجحر يدخل فيه من الحر والقر " وأخرج الطبراني والبزار والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته - قالوا : وما هي ؟ قال تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ، وتعفو عمن ظلمك ، وفى ترغيب الأصبهاني عن أنس مرفوعا : " إن استطعت أن تمسي وتصبح وليس فى قلبك غش لأحد فافعل ، فإنه أهون عليك في الحساب " ، وأخرج البيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال أعرابي : يا رسول الله من يحاسب الخلق يوم القيامة ؟ قال : الله ، قال : نجونا ورب الكعبة ، قال : وكيف يا أعرابي ؟ قال : لأن الكريم إذا قدر عفا . وما أحسن ما قيل من الحكم المدونة : الكريم إذا قدر غفر ، وإذا زللت معه ستر . ومنها : ليس من عادة الكرام سرعة الغضب والانتقام .

التالي السابق


الخدمات العلمية