لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 184 ] ( ( و ) ) كذا وقوف الخلق لأجل ( ( الميزان ) ) اعلم أن مراتب المعاد البعث والنشور ثم المحشر ، ثم القيام لرب العالمين ، ثم العرض ، ثم تطاير الصحف وأخذها باليمين وأخذها بالشمال ، ثم السؤال والحساب ، ثم الميزان ( ( بالثواب ) ) أي ثواب الأعمال الصالحة ، وعن السيئات الفاضحة قال علماؤنا كغيرهم :

نؤمن بأن الميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات حق ، قالوا : وله لسان وكفتان توزن به صحائف الأعمال ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما : توزن الحسنات في أحسن صورة ، والسيئات في أقبح صورة .

قال العلامة الشيخ مرعي في بهجته :

الصحيح أن المراد بالميزان الميزان الحقيقي لا مجرد العدل خلافا لبعضهم .

وقال القرطبي في تذكرته :

قال العلماء : إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال ؛ لأن الوزن للجزاء ، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة لتقرير الأعمال والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها ، قال الله تعالى : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) ، وقال تعالى : ( فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية ) ، والحاصل أن الإيمان بالميزان كأخذ الصحف ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ، فالكتاب ما ذكرناه ، وقوله تعالى ( وأما من خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ) إلى غير ذلك من الآيات ، وروي أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان ، فلما رآه غشي عليه ، فلما أفاق قال : إلهي من ذا الذي يقدر بملأ كفة حسناته ؟ فقال :

إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة . ذكره الرازي والثعلبي .

وقال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه : إن ميزان رب العالمين ينصب للجن والإنس ، يستقبل به العرش ، إحدى كفتيه على الجنة ، والأخرى على جهنم ، لو وضعت السماوات والأرض في إحداهما لوسعتهن ، وجبريل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه .

قال في البهجة في هذا : إن أعمال الجن توزن كما توزن أعمال الإنس ، وهو كذلك ارتضاه الأئمة .

قال القرطبي في تذكرته :

المتقون توضع حسناتهم في الكفة النيرة حتى [ ص: 185 ] لا ترتفع ، وترفع المظلمة ارتفاع الفارغة الخالية ، قال : وأما الكفار فيوضع كفرهم وأوزارهم في الكفة المظلمة ، وإن كانت لهم أعمال بر وضعت في الكفة الأخرى فلا تقاومها إظهارا بفضل المتقين وذل الكافرين ، والحق أن الكفار لا يقيم الله لهم وزنا ، لقوله تعالى : ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) ، ومن قال : توزن أعمالهم لوروده في ظواهر عموم الآيات والأحاديث يجيب عن الآية الكريمة بأنه تعالى لا يقيم لهم وزنا نافعا كما في قوله :

( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) أي كالهباء في عدل نفعه ، وحصول فائدته .

والحق أن مؤمني الجن كالإنس في الوزن ، وكافرهم ككافرهم .

وأخرج الحاكم وصححه من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعهن ، فتقول الملائكة : يا رب لمن يزن هذا ؟ فيقول : لمن شئت من خلقي ، فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك "

وأخرجه الإمام عبد الله بن المبارك في الزهد ، والآجري في الشريعة عن سلمان موقوفا .

وأخرج البزار والبيهقي في البعث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يؤتى بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفة الميزان ، ويوكل به ملك ، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق :

سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خف ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق :

ألا شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا
" ، وذكر الثعلبي وغيره ، وابن جرير في تفسيره ، وابن أبي الدنيا عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال :

صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام . وقال الحسن هو ميزان له كفتان ، ولسان وهو بيد جبريل عليه السلام . وأخرج أبو الشيخ بن حيان في تفسيره من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال :

الميزان له لسان وكفتان . فقد دلت الآثار على أنه ميزان حقيقي ذو كفتين ولسان كما قال ابن عباس والحسن البصري ، وصرح بذلك علماؤنا والأشعرية وغيرهم ، وقد بلغت أحاديثه مبلغ التواتر ، وانعقد إجماع أهل الحق من المسلمين عليه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال :

يحاسب الناس يوم القيامة [ ص: 186 ] فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار .

قال : وإن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح ، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط .

وأخرج الإمام أحمد في الزهد من طريق رباح بن زيد عن أبي الجراح عن رجل يقال له حازم ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل عليه جبريل وعنده رجل يبكي ، فقال : " من هذا ؟ قال : فلان ، قال جبريل : أنا أزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء ، فإن الله يطفئ بالدمع بحورا من نيران جهنم " .

وأخرج البيهقي عن مسلم بن يسار قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ما اغرورقت عين بمائها إلا حرم الله ذلك الجسد على النار ، ولا سالت قطرة على خدها فيرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلة ، ولو أن باكيا بكى في أمة من الأمم لرحموا ، وما من شيء إلا له مقدار وميزان إلا الدمعة فإنها يطفأ بها بحار من نار ) ، وأخرج الترمذي وحسنه من حديث أنس - رضي الله عنه - قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لي يوم القيامة ، فقال :

" أنا فاعل إن شاء الله " قلت :

أين أطلبك ؟ قال :

" أول ما تطلبني على الصراط " قلت :

فإن لم ألقك على الصراط قال :

" فاطلبني عند الميزان " قلت ، فإن لم ألقك عند الميزان قال : " فاطلبني عند الحوض ، فإني لا أخطئ الثلاث مواطن "
ورواه البيهقي في البعث وغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية