لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 187 ] ( الثاني )

اختلف في الموزون ، قيل : يوزن العبد مع عمله ، وقيل توزن نفس الأعمال فتصور الأعمال الصالحة بصورة حسنة نورانية ثم تطرح في كفة النور ، وهي اليمنى المعدة للحسنات ، فتثقل بفضل الله سبحانه ، وتصور الأعمال السيئة بصورة قبيحة ظلمانية ثم تطرح في الكفة المظلمة ، وهي الشمال المعدة للسيئات ، فتخفف بعدل الله سبحانه كما جاء به الحديث ، فامتناع قلب الحقائق في مقام خرق العادات غير ملتفت إليه كما لا يخفى ، وقيل :

إن الله تعالى يخلق أجساما على عدد تلك الأعمال من غير قلب لها .

والحق ما قدمناه ؛ أن الموزون صحف الأعمال ، وصححه ابن عبد البر والقرطبي وغيرهما ، وصوبه الشيخ مرعي في بهجته ، وذهب إليه جمهور من المفسرين ، وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يوزن يوم القيامة فقال :

" الصحف "
ذكره الفخر الرازي وغيره ، وحكاه ابن عطية عن أبي المعالي ، ويؤيد ذلك حديث البطاقة والسجلات ، رواه الترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم والبيهقي ، وقال الحاكم :

على شرط مسلم . عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :

" إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مثل مد البصر ، ثم يقول : أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب ، فيقول : أفلك عذر أو حسنة ؟ فيقول : لا يا رب ، فيقول الله :

بلى إن لك عندنا حسنة ، فإنه لا ظلم عليك اليوم ، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقول :

احضر وزنك ، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال :

فإنك لا تظلم ، وتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، فلا يثقل مع اسم الله شيء
"

قال العلامة الشيخ مرعي في بهجته : ثبت بهذا الحديث الصحيح أن الموزون صحائف الأعمال ، فإن قيل : قد أخرج الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :

" إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح [ ص: 188 ] بعوضة " ، فقد صرح بأن الموزون نفس بدن الإنسان ، فالجواب أن هذا ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلا للذي يغتر ببعض الأجسام ، وهو كناية عن اكتراث الله بالأجساد ، فإن الله لا ينظر إلى الصور ، وإنما ينظر إلى الأعمال والقلوب ، فكم من جسم وسيم وهو عند الله من أصحاب الجحيم ، فهذا محمل الحديث الصحيح ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية