لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( ( عنه يذاد المفتري كما ورد ومن نحا سبل السلامة لم يرد ) )

( ( عنه ) ) أي : عن حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الشرب منه ( ( يذاد ) ) بضم التحتية ، وفتح الذال المعجمة ، فدال مهملة قبلها ألف مبني لما لم يسم فاعله ، أي : يطرد ويساق ويدفع دفعا عنيفا ، قال في القاموس : الذود السوق والطرد والدفع كالذياد ( ( المفتري ) ) نائب الفاعل من الفرية بكسر الفاء الكذب ، يقال : فري يفري فريا ، وافترى يفتري افتراء إذا كذب ، وهو افتعال منه ، ومنه ( ولا يأتين ببهتان يفترينه ) ، وفي الحديث " من أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا " فالفرى جمع فرية ، وهي الكذبة ، وأفرى أفعل منه للتفضيل ، أي : أكذب الكذبات أن يقول : رأيت في النوم كذا ، ولم يكن رأى شيئا ، لأنه كذب على الله ؛ لأنه هو الذي يرسل ملك الرؤيا ليريه المنام .

والحاصل أن من الذين يذادون عن الحوض جنس المفترين على الله تعالى ، وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - من المحدثين في الدين من الروافض والخوارج وثائر أصحاب الأهواء والبدع المضلة ، وكذلك المسرفون من الظلمة المفرطون في الظلم والجور وطمس الحق ، كذلك المتهتكون في ارتكاب المناهي ، والمعلنون في اقتراف المعاصي ، وقد أخرج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال :

أغفى رسول الله [ ص: 198 ] - صلى الله عليه وسلم - إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقال : " إنه أنزلت علي آنفا سورة ، فقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر ) حتى ختمها قال : " هل تدرون ما الكوثر ؟ قالوا :

الله ورسوله أعلم ، قال :

هو نهر أعطانيه ربي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منه ، فأقول : يا رب إنه من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدث بعدك "
وأخرج الطبراني عنه مرفوعا " أعطيت الكوثر - قلت : يا رسول الله ، وما الكوثر ؟ قال : نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب لا يشرب منه أحد فيظمأ ، ولا يتوضأ منه أحد فيشعث ، لا يشربه من أخفر ذمتي ، ولا من قتل أهل بيتي " وأخرج مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليردن علي الحوض أقوام فيختلجون دوني ، فأقول : رب أصحابي ، رب أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " وأخرج ابن أبي عاصم في السنة عن ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمير المؤمنين الحسن بن علي - رضي الله عنه - أنه قال لمعاوية : أنت السباب لعلي ؟ أما والله لتردن عليه الحوض - وما أراك ترده - فتجده مشمر الإزار على ساق يذود عنه لا يأتي المنافقون ذود غريبة الإبل قول الصادق المصدوق ، وقد خاب من افترى .

وأخرج الطبراني وابن حبان والحاكم وصححه عن خباب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " سيكون أمراء من بعدي ، فلا تصدقون بكذبهم ، ولا تعينوهم على ظلمهم ، فمن فعل لم يرد علي الحوض " وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال :

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أنا فرطكم على الحوض ، من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا ، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم " قال أبو حازم : فسمع النعمان بن أبى عياش وأنا أحدث هذا الحديث فقال : هكذا سمعت سهلا يقول ؟ قلت : نعم .

فقال :

وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري سمعته يزيد " إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما عملوا بعدك ، فأقول سحقا لمن بدل بعدي [ ص: 199 ] وأخرج الإمام أحمد والطبراني والبزار عن ابن عباس - رضي الله عنهما - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " أنا فرطكم على الحوض فمن ورد أفلح ، ويجاء بأقوام فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول :

يا رب ، فيقال :

ما زالوا بعدك مرتدين على أعقابهم
" وأخرج الحكيم في نوادر الأصول عن عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :

" يا عثمان ، لا ترغب عن سنتي ، فمن رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب ضربت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة " .

وأخرج الترمذي ، والحاكم ، عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج عليهم ، وقال :

" إنه سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ، وليس بوارد علي الحوض ، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ، ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه ، وهو وارد علي الحوض .

" وأخرج الطبراني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :

" ليرفعن لي رجال من أصحابي إذا رأيتهم اختلجوا دوني فأقول أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " فهذا معنى قوله ( ( كما ورد ) ) .

ذلك في الأحاديث النبوية مما ذكرنا ومما لم نذكر ، وقد أخرج البخاري ومسلم حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - بلفظ : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :

" أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن إلي رجال منكم إذا هويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " وفيهما من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا إلي اختلجوا دوني ، فلأقولن : أي رب أصحابي ، فليقالن لي : إنك لا تدري ما أحدثوا ، فأقول : سحقا لمن بدل بعدي " وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال :

" يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي - أو قال : من أمتي ، فيحلئون عن الحوض ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى " ، وفي رواية ، فيجعلون ، قال في جامع الأصول : اختلجوا إذا استلبوا وأخذوا بسرعة ، وقوله : فيحلئون [ ص: 200 ] يعني : مبنيا للمجهول ، أي : يدفعون عن الماء ، ويطردون عن وروده إذا كان بالحاء المهملة ، ومن رواه بالجيم فهو من الجلاء ، وهو النفي عن الوطن ، وهو راجع إلى الطرد .

وفي رواية عند البخاري : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، فقلت : إلى أين ؟ فقال : إلى النار والله ، فقلت : ما شأنهم ، فقال : إنهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة أخرى ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، قلت : إلى أين ؟ قال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا على أدبارهم ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم " وفي رواية لمسلم : " وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون ، فأقول : يا رب ، هؤلاء أصحابي ، فيجيبني ملك فيقول : وهل تدري ما أحدثوا بعدك ! " وعند مسلم أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال :

" فوالله ليقطعن دوني رجال فلأقولن : أي رب ، مني ومن أمتي ، فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، ما زالوا يرجعون على أعقابهم " وفي الصحيحين من حديث أسماء بنت الصديق - رضي الله عنهما - قالت :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني على الحوض أنظر من يرد منكم ، وسيؤخذ ناس دوني ، فأقول : يا رب ، مني ومن أمتي - وفي رواية ، فأقول : أصحابي - فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك ؟ فوالله ما برحوا يرجعون على أعقابهم " وفي ذلك أحاديث كثيرة جدا .

قال القرطبي : قال علماؤنا كل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ولم يؤذن به ، فهو من المطرودين عن الحوض ، وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين كالخوارج والروافد والمعتزلة على اختلاف فرقهم ، فهؤلاء كلهم مبدلون ، وكذا الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وإذلال أهله ، والمعلنون بكبائر الذنوب ، والمستخفون بالمعاصي ، وجماعة أهل الزيغ والبدع .

ثم الطرد قد يكون في حال ، ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد .

قال :

وقد يقال : إن أهل الكبائر يردون ويشربون ، وإذا دخلوا النار بعد ذلك لم يعذبوا بالعطش . انتهى .

فأهل البدع مطرودون عن حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ومردودون عن الشرب ، منه ( ( ومن ) ) أي : [ ص: 201 ] وأي شخص من هذه الأمة من ذكر وأنثى ( ( نحا ) )

أي : قصد ، يقال : نحاه ينحوه وينحاه قصده كانتحاه ( ( سبل ) )

بضم السين المهملة ككتب ، جمع سبيل ، وهو الطريق وما وضح منه ، وجمعه أن الطريق الحق واحد باعتبار خصاله ، وشعبه المتوصل منه إليها ( ( السلامة ) )

من الكلمات الجامعة لخير الدنيا والآخرة ، قال في القاموس : السلامة البراءة من العيوب ، يعني أن من نهج منهج الحق وسلك طريق السنة ، وسلم من البدع وكبائر الذنوب فإنه يرد على حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشرب منه ، و ( ( لم يرد ) )

عن الشرب منه ، ولم يطرد عن الورود عليه كما يفهم من الأحاديث المارة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية