لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( ( فإنها ثابتة للمصطفى كغيره من كل أسباب الوفا ) )


( ( من عالم كالرسل والأبرار     سوى التي خصت بذي الأنوار ) )



( ( فإنها ) ) أي الشفاعة العظمى وغيرها من سائر الشفاعات الآتي ذكرها ( ثابتة ) بالنقل الصحيح بل المتواتر ( لـ ) النبي ( ( المصطفى ) ) محمد - صلى الله عليه وسلم - ( ( كـ ) ) ما أنها ثابتة لـ ( ( غيره ) ) أي غير نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ( ( من كل أرباب ) ) أي أصحاب ( ( الوفا ) ) بامتثال الأوامر ، والانتهاء عن الزواجر .

ثم أخذ في بيان ما أجمل من أرباب الوفا بقوله : ( ( من عالم ) ) عامل بعلمه معلم لغيره ، وهم الربانيون ، وهؤلاء ورثة الأنبياء ، فهؤلاء كما نفعوا الناس في الدنيا بالدلالة والتعليم ، كذلك ينفعونهم بالشفاعة عند المولى الجواد الكريم ، فيقبل شفاعاتهم ، ويعلي درجاتهم ( ( كالرسل ) ) [ ص: 209 ] جمع رسول ، وهو من أوحي إليه بشرع من بني آدم وأمر بتبليغه وكذا الأنبياء ، وهم - يعني الرسل والأنبياء - خواص الخلق من بني آدم ( ( والأبرار ) ) جمع بار ، وهم الأتقياء الأخيار .

والحاصل أنه يجب أن يعتقد أن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من سائر الرسل والأنبياء والملائكة والصحابة والشهداء والصديقين والأولياء على اختلاف مراتبهم ومقاماتهم عند ربهم يشفعون ، وبقدر جاههم ووجاهتهم يشفعون لثبوت الأخبار بذلك ، وترادف الآثار على ذلك ، وهو أمر جائز غير مستحيل ، فيجب تصديقه والقول بموجبه لثبوت الدليل ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم :

( ( أنا أول شافع ، وأول مشفع ) ) روى هذا اللفظ أبو هريرة - رضي الله عنه - رواه مسلم ، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أخرجه البيهقي ، وعبد الله بن سلام - رضي الله عنه - أخرجه البيهقي أيضا .

وأما حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عند البيهقي قال :

يشفع نبيكم رابع أربعة جبريل ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم نبيكم ، لا يشفع أحد في أكثر مما يشفع فيه نبيكم ، ثم الملائكة ، ثم النبيون ، ثم الصديقون ، ثم الشهداء .

قال البخاري : كذا قال أبو الزعراء : عن ابن مسعود ، ولا يتابع عليه ، والمشهور أنه - صلى الله عليه وسلم - أول شافع ، وكذا قال غير البخاري من أئمة الحفاظ ، والله أعلم .

وأخرج ابن ماجه ، والبيهقي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :

يشفع يوم القيامة الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء " وأخرجه البزار ، وفي آخره " ثم المؤذنون " .

وأخرج الطبراني في الكبير ، والبيهقي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " ليدخلن الجنة قوم من المسلمين قد عذبوا في النار - برحمة الله ، وشفاعة الشافعين " ، وأخرجه الإمام أحمد ، والبيهقي من حديث حذيفة ونحوه ، وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " يشفع الله آدم يوم القيامة من جميع ذريته في مائة ألف ألف ، وعشرة آلاف ألف " ، وأخرج ابن أبي عاصم ، والأصفهاني عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " يجاء بالعالم والعابد ، فيقال للعابد : ادخل الجنة ، ويقال للعالم : قف حتى تشفع للناس " .

[ ص: 210 ] وأخرج البيهقي من حديث جابر مثله ، وزاد في آخره " بما أحسنت أدبهم " .

وأخرج الديلمي من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعا " يقال للعالم : اشفع في تلامذتك ، ولو بلغ عددهم نجوم السماء " .

وأخرج أبو داود ، وابن حبان عن أبي الدرداء : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :

" الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته " وأخرج الإمام أحمد ، والطبراني مثله من حديث مقدام بن معدي كرب .

وأخرج البزار ، والبيهقي بسند صحيح عن أنس - رضي الله عنه - قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليشفع في الرجل والرجلين والثلاثة يوم القيامة " .

وأخرج الترمذي والحاكم وصححاه ، والبيهقي عن عبد الله بن أبي الجدعاء ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم " ، قالوا : سواك يا رسول الله ؟ قال : سواي " قال الفريابي : يقال : إنه عثمان بن عفان - رضي الله عنه .

وأخرج البيهقي عن الحسن مرفوعا " ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر " والحاكم وصححه ، والبيهقي عن الحارث بن قيس مرفوعا " إن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعته أكثر من مضر ، وإن من أمتي من سيعظم للنار حتى يكون أحد زواياها " .

وأخرج الإمام أحمد مثله من حديث أبي برزة . وهناد مثله من حديث أبي هريرة .

وأخرج الإمام أحمد والطبراني ، والبيهقي بسند صحيح عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين ربيعة ومضر " .

وأخرج الترمذي وحسنه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن من أمتي لرجالا يشفع الرجل منهم في الفئام من الناس فيدخلون الجنة بشفاعته ، ويشفع الرجل منهم للقبيلة فيدخلون الجنة بشفاعته ، ويشفع الرجل منهم للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته " .

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال :

لا تزال الشفاعة بالناس ، وهم يخرجون من النار حتى إن إبليس الأباليس ليتطاول لها رجاء أن تصيبه .

وأخرج البزار عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :

[ ص: 211 ] " الحاج يشفع في أربعة من أهل بيته " .

والحاصل أن للناس شفاعات بقدر أعمالهم ، وعلو مراتبهم وقربهم من الله تعالى ، والقرآن يشفع لأهله ، والحجر الأسود يشفع لمستلمه ، ولكن لا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون .

( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) . وبالله التوفيق ( سوى ) الشفاعات ( التي خصت بذي ) أي بصاحب ( الأنوار ) نبينا المختار - صلى الله عليه وسلم - ما دارت الأدوار ، وتعاقب الليل والنهار ، فلا يشاركه فيها نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، ولا صديق ولا شهيد ؛ لأنها مختصة بجنابه الرفيع ، وقدره المجيد ، والشفاعات المختصة به - صلى الله عليه وسلم - عدة ، ( أولها ) :

وهي أعظمها وأعمها ، شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لفصل القضاء بين الورى بعد التردد إلى الأنبياء ، وتدافعها بين أخيار الملأ إلى أن تصل لصاحب الحوض المورود ، وهى المقام المحمود ، وقد عم العالم زيادة القلق ، وتصاعد العرق ، وقاسوا من ذلك ما يذيب الأكباد ، وينسي الأولاد ، وهذه مجمع عليها لم ينكرها أحد . ( ثانيها ) :

يشفع عند ربه في إدخال قوم من أمته الجنة بغير حساب ، فإن هذه خاصة به أيضا - صلى الله عليه وسلم - كما قال القاضي عياض والإمام النووي ، وتردد ابن دقيق العيد في الاختصاص ، وتبعه الحافظ ابن حجر قال :

فإن الاختصاص إنما يثبت بالدليل ، ولا دليل عليه ، وقد روى حديث هذه الشفاعة مسلم في صحيحه ، وجزم بالاختصاص الحافظ السيوطي في أنموذج اللبيب . ( ثالثها ) :

شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في قوم استوجبوا النار بأعمالهم ، فيشفع فيهم فلا يدخلونها ، وهذه جزم القاضي وابن السبكي بعدم اختصاصها به - صلى الله عليه وسلم - وتردد النووي في ذلك . قال السبكي :

لأنه لم يرد نص صحيح بثبوت الاختصاص ولا بنفيه .

وجزم في الأنموذج بأنها من خصائصه - صلى الله عليه وسلم .

( رابعا ) في رفع درجات ناس في الجنة ، وهذه لا تنكرها المعتزلة كالأولى ، إلا أن النووي جوز اختصاصها به عليه الصلاة والسلام ، وجزم في كتاب الانتقاد له باختصاصها به .

قال في الأنموذج : جوز النووي اختصاص هذه والتي قبلها به ، ووردت الأحاديث في التي قبل ، وصرح به القاضي عياض ، وابن دحية . ( خامسها ) :

[ ص: 212 ] الشفاعة في إخراج عموم أمته من النار حتى لا يبقى منهم أحد ، ذكره السبكي ، وبالشفاعة في جماعة من صلحاء المسلمين ليتجاوز عنهم في تقصيرهم في الطاعات ، ذكره القزويني في العروة الوثقى .

التالي السابق


الخدمات العلمية