لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( تنبيهات )

( الأول ) قال الجوهري :

الجان أبو الجن . قال الإمام أبو الوفا بن عقيل : إنما يسمى الجن جنا لاجتنانهم ، واستتارهم عن العيون ، قال : والشياطين عصاة الجن ، وهم من ولد إبليس ، والمردة أعتاهم وأغواهم .

وقال ابن عبد البر : الجن عند أهل الكلام والعلم باللسان على مراتب ، فإذا ذكروا الجن خالصا قالوا : جني ، فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا : عامر ، والجمع عمار ، فإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا : أرواح ، فإن خبث وتعرض قالوا شيطان ، فإن زاد على ذلك وقوي أمره قالوا : عفريت .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية روح الله روحه : لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ، وكذا جمهور الكفار ، لأن وجودهم تواترت به أخبار الأنبياء تواترا معلوما بالاضطرار يعرفه الخاصة والعامة ، وقال : ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهال الفلاسفة ونحوهم .

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني : كثير يقر بوجودهم ، ويزعم أنهم لا يرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع فيها ، ومنهم من زعم أنهم لا يرون لأنهم لا ألوان لهم ، وقد ذكر إسحاق بن بشر في المبتدأ عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما : خلق الجن قبل آدم بألفي سنة ، وقال إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما : لما خلق الله تعالى سوما أبا الجن ؟ وهو الذي خلق من مارج من نار قال له تعالى : تمن ، قال : أتمنى أن نرى ولا نرى ، وأن نغيب في الثرى ، ويصير كهلنا شابا . فأعطي ذلك ، فهم يرون ولا يرون ، وإذا ماتوا غيبوا في الثرى ، ولا يموت كهلهم حتى يعود شابا يعني مثل الصبي يرد إلى أرذل العمر .

وأخرج [ ص: 221 ] مسلم عن أم المؤمنين عائشة الصديقة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " .

وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد عن مجاهد في قوله : ( وخلق الجان من مارج من نار ) قال : اللهب الأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت .

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما : خلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن دينار قال : خلق الجان والشياطين من نار الشمس . انتهى .

وقال أبو الوفا بن عقيل في الفنون : سأل سائل عن الجن ، فقال أخبر الله عنهم أنهم من نار ، وأخبر أن الشهب تضرهم وتحرقهم ، فكيف تحرق النار النار ؟ قال : والجواب أن الله تعالى أضاف الشياطين والجان إلى النار حسب ما أضاف الإنسان إلى التراب والطين والفخار ، والمراد به في حق الإنسان أن أصله الطين ، وليس الآدمي طينا حقيقة ولكنه كان طينا ، كذلك الجان كان نارا في الأصل .

قال القاضي عبد الجبار المعتزلي : الدليل على أن أصل الجن النار السمع دون العقل .

وقال الإمام القاضي أبو يعلى بن الفراء : الجن أجسام مؤلفة ، وأشخاص ممثلة ، ويجوز أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة ، خلافا للمعتزلة في قولهم : إنهم أجسام رقيقة ، ولرقتها لا تراها . قال القاضي أبو يعلى : ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور ، وإنما يجوز أن يعلمهم الله كلمات ضربا من ضروب الأفعال إذا فعلها وتكلم بها نقله الله من صورة إلى صورة ، فيقال إنه قادر على التصوير والتخييل على معنى أنه قادر على قول إذا قاله وفعله نقله الله عن صورة إلى أخرى لجري العادة ، وأما أن يصور نفسه في ذلك فذلك محال ؛ لأن انتقالها عن صورة إلى صورة إنما يكون بنقض البنية وتفريق الأجزاء ، وإذا انتقلت بطلت الحياة واستحال وقوع الفعل من الجملة ، وكيف تنقل نفسها ؟ قال : والقول في تشكيل الملائكة مثل ذلك ، والذي روي أن إبليس تصور في صورة سراقة ، وأن جبريل تمثل في صورة دحية محمول على ما ذكرنا ، وهو أنه أقدره الله على قول قاله فنقله الله عن صورة إلى صورة أخرى ، قال القاضي : الجن يأكلون ويشربون ويتناكحون كما يفعل الإنس .

[ ص: 222 ] وظاهر المعلومات أن جميع الجن كذلك ، وهو رأي قوم ، ثم اختلفوا فزعم بعضهم أن أكلهم وشربهم تشمم استرواح لا مضغ وبلع ، وهذا لا دليل عليه ، وقال الأكثرون : إنهم يأكلون بمضغ وبلع ، وزعم قوم أن جميع الجن لا يأكلون ولا يشربون . وهذا ساقط ، وقيل إن صنفا يأكلون ويشربون ، وصنفا لا يأكلون ولا يشربون ،وسئل وهب بن منبه عن الجن هل يأكلون ويشربون ؟ وهل يموتون ويتناكحون ؟ فقال : هم أجناس ، فأما خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون ، ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتوالدون ويتناكحون ويموتون ، قال : وهي هذه التي منها السعالي والغول وأشباه ذلك . أخرجه ابن جرير .

وحديث علقمة عن أبي مسعود عند الإمام أحمد ومسلم والترمذي : لما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - داع من الجن ، فذهب معه فقرأ عليهم القرآن ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - انطلق بأصحابه فأراهم آثارهم وآثار نيرانهم يدل على أنهم كانوا كالإنس في الجملة ، وفيه أنهم سألوه الزاد ، وكانوا من جن الجزيرة ، فقال لهم - صلى الله عليه وسلم :

لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه
- ولفظ الترمذي : لم يذكر اسم الله عليه - يقع في أيديكم أوفر ما كان لحما ، وكل بعرة علف لدوابكم .

قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " لا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن " وقد جمع بعض العلماء بين رواية الترمذي لم يذكر اسم الله عليه ، وبين رواية الإمام أحمد ومسلم بأن ما في المسند وصحيح مسلم في حق المسلم من الجن ، وما في رواية الترمذي في حق غير المؤمنين منهم ، وصححه السهيلي ، وقال : هذا يعضد الأحاديث .

وقد استدلوا على مناكحتهم بقوله تعالى ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ) وبقوله تعالى : ( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) وهذا يدل على أنه يتأتى منهم الجماع ، وفي الحديث : " إن الجن يتوالدون كما يتوالد بنو آدم وهم أكثر عددا " . رواه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية