لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الثالث ) :

قال ابن مفلح في فروعه : ولم يبعث إليهم - يعني الجن - نبي قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم ، قال : وليس منهم رسول ، ذكره القاضي أبو يعلى وابن عقيل وغيرهما ، وأجابوا عن قوله تعالى ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) أنها كقوله تعالى ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) وإنما يخرج من أحدهما ، وكقوله : ( وجعل القمر فيهن نورا ) وإنما هو في سماء واحدة .

قال : وللمفسرين قولان ، والقول بأن منهم رسلا قول الضحاك وغيره . قال الإمام الحافظ ابن الجوزي : وهو ظاهر الكلام .

وقال الحافظ السيوطي في ( لقط المرجان ) : جمهور العلماء سلفا وخلفا على أنه لم يكن من الجن قط رسول ولا نبي ، كذا روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد والكلبي وأبي عبيد ، وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر ، وابن أبى حاتم عن مجاهد في قوله تعالى ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) قال : ليس في الجن رسل إنما الرسل في الإنس ، والنذارة في الجن ، وقرأ ( فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ) ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قوله : رسل منكم قال : رسل الرسل ، وقرأ الآية .

قال ابن جرير ، وأما [ ص: 224 ] الذين قالوا بقول الضحاك ، فاحتجوا بأن الله أخبر أن من الجن رسلا أرسلوا إليهم ، قالوا : لو جاز أن يكون خبره عن رسل الجن بمعنى رسل الإنس لجاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رسل الجن ، وفي فساد هذا المعنى ما يدل على أن الخبرين جميعا بمعنى الخبر عنهم أنهم رسل الله ؛ لأنه المعروف في الخطاب دون غيره .

وقال أبو محمد بن حزم :

لم يبعث إلى الجن نبي من الإنس البتة قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه ليس الجن من قوم الإنس ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة " . قال : وباليقين ندري أنهم قد أنذروا ، وأفصح أنهم كان لهم أنبياء منهم في قوله ( ألم يأتكم رسل منكم ) . انتهى .

وتأول الجمهور كل ما ورد من ذلك ، ولا يخفى أن ظاهر القرآن مع ما قاله الضحاك والأكثرون على خلافه ، وتحقيق ذلك والبحث فيه مما لا فائدة فيه لعدم ترتب شيء عليه ، غير أن نقطع بأنهم سمعوا ببعثة رسل الإنس لقوله تعالى ( إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ) وظاهر هذا أنهم كانوا مؤمنين بشريعة موسى عليه السلام ، والظاهر أن الشياطين الذين سخرهم الله لسليمان كانوا يأتمرون في الشرائع بقوله ، وهو كان من أنبياء بني إسرائيل ، وهل كان على شرع مستقل أو شرع موسى ؟ قلت : الظاهر كما يفهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح وغيره أنه كان على شرع موسى ؛ لأن شريعة التوراة استمرت من عهد موسى إلى أن بعث عيسى ، فنسخ بعضها وأمر باتباع بعض ، وهذا ظاهر في أنه كان على شريعة موسى ، بل صريح والله أعلم .

( الرابع ) :

قال في الفروع : قال شيخنا - يعني في الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه : ليس الجن كالإنس في الحد والحقيقة ، فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساويا لما على الإنس في الحد والحقيقة ، لكنهم مشاركوهم في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم بلا نزاع أعلمه بين العلماء ، فقد يدل ذلك على مناكحتهم وغيرها .

قال في الفروع : وقد يقتضيه إطلاق أصحابنا . وفي المغني وغيره أن الوصية لا تصح لجني ؛ لأنه لا يملك بالتمليك كالهبة .

قال في الفروع : فيتوجه من انتفاء التمليك [ ص: 225 ] منا منع الوطء لأنه في مقابلة مال ، قال الله تعالى : ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) ، وقال : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ) قال : وقد جعل أصحابنا هذا المعنى في شروط الكفاءة فههنا أولى ، قال : ومنع منه غير واحد من متأخري الحنفية وبعض الشافعية ، وجوزه منهم ابن يونس في شرح الوجيز . قال في مسائل حرب : باب مناكحة الجن ثم روى عن الحسن وقتادة والحكم وإسحاق كراهتها ، وروى من رواية ابن لهيعة عن يونس عن الزهري : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح الجن .

وعن زيد العمي : اللهم ارزقني جنية أتزوجها تصاحبني حيث ما كنت . قال في الفروع : ولم يذكر حرب عن الإمام أحمد شيئا ، وعن مالك : لا بأس به في الدين ، ولكنني أكره إذا وجدت امرأة حامل فقيل : من زوجك ؟ قالت : من الجن ، فيكثر الفساد . انتهى .

وذكر الحافظ السيوطي آثارا وأخبارا عن السلف والعلماء تدل على وقوع التناكح بين الجن والإنس .

وقد حدثني بوقوعه جماعة معهم أنفسهم ، فالله أعلم بصحة ذلك ، وإن ظهر مخايل ثبوته ، فأنا على شك منه ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية