لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( ( واجزم بأن النار كالجنة في وجودها وأنها لم تتلف ) )



( ( واجزم ) ) جزم إيقاف وعرفان وتصديق وإذعان ( ( بأن النار ) ) وما فيها من أنواع العذاب والهوان والبوار والزبانية والأغلال والعقارب كالبغال ونحوها موجود الآن ، ومن قبل الآن ( ( كما ) ) أن ( ( الجنة ) ) وما فيها من الولدان والحور والنعيم والحبور والحلل والتيجان والفواكه والدور والفرش والقصور وجميع ما اشتملت عليه من أنواع الملاذ والسرور موجود الآن ، وقبل الآن ، فالنار ( ( في وجودها ) ) الآن كالجنة فهما موجودتان ، قال الإمام المحقق في كتابه : ( حادي الأرواح ) : لم يزل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم ، والتابعون وتابعوهم وأهل السنة والحديث قاطبة ، وفقهاء الإسلام وأهل التصوف والزهد على اعتقاد ذلك وإثباته [ ص: 231 ] مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة ، وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم ، فإنهم دعوا الأمم إليها وأخبروا بها ، إلى أن نبغت نابغة من القدرية والمعتزلة ، فأنكرت أن تكون الجنة كالنار الآن مخلوقة ، وقالوا :

بل الله ينشئها يوم المعاد ، وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة فيما يفعله الله ، وأنه ينبغي له أن يفعل كذا ، ولا ينبغي له أن يفعل كذا ، وقاسوه سبحانه على خلقه في أفعاله ، فهم مشبهة في الأفعال ، ودخل التجهم فيهم فصاروا مع ذلك معطلة في الصفات وقالوا : خلق الجنة والنار قبل الجزاء عبث ، فإنهما يصيران معطلتين مددا متطاولة ليس فيهما ساكنهما ، قالوا :

ومن المعلوم أن ملكا لو اتخذ دارا وأعد فيها الألوان والأطعمة والآلات والمصالح وعطلها من الناس ولم يمكنهم من دخولها قرونا متطاولة لم يكن ما فعله واقعا على وجه الحكمة ، ووجد العقلاء سبيلا إلى الاعتراض عليه .

فحجروا على الرب تعالى بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة التي وضعوها ، وحرفوها عن مواضعها ، وضيعوها وضللوا كل من خالف بدعتهم هذه القبيحة ، وبدعوا من انصرف عن شرعتهم هذه الفضيحة ، والتزموا لها لوازم أضحكوا عليهم فيها العقلاء ، وقبح عليهم رأيهم بسببها النبلاء ، ولهذا صار السلف الصالح ومن نحا نحوهم يذكرون في عقائدهم أن الجنة والنار مخلوقتان ، ويذكر من صنف في المقالات أن هذه مقالة أهل السنة والحديث قاطبة لا يختلفون فيها ، منهم الإمام أبو الحسن الأشعري إمام كل أشعري في كتابه ( مقالات الإسلاميين ، واختلاف المصلين ) وفيه : وأن الجنة والنار مخلوقتان ، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سدرة المنتهى ، ورأى عندها الجنة كما في الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - في صفة الإسراء وفي آخره : " ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال : ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك " .

وفي الصحيحين أيضا من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل [ ص: 232 ] الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة " . وقد رأى - صلى الله عليه وسلم - الجنة في صلاة الكسوف حتى هم أن يتناول عنقودا من عنبها ، ورأى النار فلم يرى منظرا أفظع من ذلك ، وهذا في الصحيحين أيضا .

وفي مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود والنسائي من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في قصة ذلك ، وفيه " لقد أدنيت الجنة حتى لو بسطت يدي لتعاطيت من قطوفها ، ولقد أدنيت النار مني حتى لقد جعلت أتقيها خشية أن تغشاكم " الحديث .

وفي صحيح مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا " قالوا : وماذا رأيت يا رسول الله ؟ وفي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والسنن من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال : اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها ، فرجع ، وقال : بعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها .

فأمر بالجنة فحفت بالمكاره ، فقال : فارجع فانظر إليها ، وما أعددت لأهلها فيها ، قال :

فنظر إليها ثم رجع فقال :

وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ، ثم أرسله إلى النار فنظر إليها يركب بعضها بعضا ، فقال : لا يدخلها أحد ، فلما حفت بالشهوات قال :

وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها
" . قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

ودخوله - صلى الله عليه وسلم - ورؤيته نهر الكوثر وقصورا في الجنة وحورها وثمارها ودورها وقصورها ، وقصة آدم وخروجه منها ، وأضعاف أضعاف ما ذكرناه من الأدلة القطعية التي يفوت عدها ، ويتعسر حدها ، ويعلم المنصف أن العدول عن مضمونها مكابرة ، ورد للأخبار المتواترة ، والله تعالى أعلم .

( ( و ) ) اجزم أيضا ( ( أنها ) ) أي النار ( ( لم تتلف ) ) أي لم تهلك وتبد ، قال في القاموس تلف كفرح : هلك ، وأتلفه أفناه ، والمتلف كالمقعد : المهلك .

يعني أن النار لا تفنى ولا يفنى ما فيها كالجنة وما فيها .

قال الإمام المحقق في حادي الأرواح : أما أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد فمما يعلم بالاضطرار أن رسول الله صلى الله [ ص: 233 ] عليه وسلم أخبر به ، قال الله تعالى : ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ) أي : غير مقطوع ، ولا تناف بين هذا وبين قوله ( إلا ما شاء ربك ) ، نعم اختلف السلف في هذا الاستثناء ، فقال الضحاك : هو في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة ، يقول سبحانه : إنهم خالدون في الجنة ما دامت السماوات والأرض إلا مدة مكثهم في النار .

( وقالت فرقة ) : العزيمة وقعت لهم من الله بالخلود الدائم إلا أن يشاء الله خلاف ذلك إعلاما لهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله ، وهذا كما قال لنبيه ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) ، وقوله : ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) ، وقوله : ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ) ، ونظائر ذلك مما يخبر به سبحانه عباده أن الأمور كلها بمشيئته ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .

( وقالت فرقة أخرى ) : المراد مدة دوام السماوات والأرض في هذا العالم ، فأخبر سبحانه أنهم خالدون في الجنة مدة دوام السماوات والأرض إلا ما شاء الله أن يزيدهم عليه ، وكأن هذا قول من قال : إن إلا بمعنى سوى ، وهذا قول ابن قتيبة ، فإنه قال : المعنى خالدين فيها مدة العالم سوى ما شاء الله تعالى أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم .

( وقالت فرقة أخرى ) : المراد بالسماوات والأرض سماء الجنة وأرضها ، وهما باقيتان أبدا ، وقيل غير ذلك .

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :

" يجاء بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يقال : يا أهل الجنة ، فيطلعون مشفقين ، ويقال : يا أهل النار ، فيطلعون فرحين ، فيقال : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم ، هذا الموت ، فيذبح بين الجنة والنار ، ويقال : يا أهل الجنة خلود ولا موت فيها ، ويا أهل النار خلود ولا موت فيها " .

ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ) .

وأشار بيده إلى الدنيا
. وفي لفظ للبخاري ، ( وهم في غفلة ) : وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا ( وهم لا يؤمنون ) ، أخرجه في التفسير . وفي الصحيحين في هذا الحديث ، فإذا قيل لهم : هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم ، هذا الموت ، فيؤمر بذبحه فيذبح " . قوله فيشرئبون : [ ص: 234 ] هو بفتح أوله وسكون الشين المعجمة وفتح الراء بعدها تحتية مهموزة ثم موحدة مشددة ، أي : يمدون أعناقهم ، ويرفعون رءوسهم للنظر ، وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " يدخل أهل الجنة الجنة ، ويدخل أهل النار النار ، ثم يقوم مؤذن بينهم : يا أهل الجنة لا موت ، ويا أهل النار لا موت ، كل خالد فيما هو فيه " .

وفي رواية عنه عندهما " فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ، ويزداد أهل النار حزنا على حزنهم " .

وفي هذا عدة أحاديث عن أبي هريرة عند الحاكم وابن ماجه ، وعن أنس عند أبي يعلى والبزار والطبراني ، وفيه " فيذبح كما تذبح الشاة ، فيأمن هؤلاء ، وينقطع رجاء هؤلاء " ، فثبت بما ذكرنا من الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة خلود أهل الدارين خلودا مؤبدا كل بما هو فيه من نعيم وعذاب أليم ، وعلى هذا إجماع أهل السنة والجماعة ، فأجمعوا أن عذاب الكفار لا ينقطع ، كما أن نعيم أهل الجنة لا ينقطع ، ودليل ذلك الكتاب والسنة ، وزعمت الجهمية أن الجنة والنار يفنيان ، وقال هذا إمامهم جهم بن صفوان إمام المعطلة ، وليس له في ذلك سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الدين ، ولا قال به أحد من أهل السنة ، نعم حكى بعض العلماء في أبدية النار قولين .

وحاصل ذلك كله سبع أقوال ( أحدها ) :

قول الخوارج والمعتزلة أن من دخل النار لا يخرج منها أبدا بل كل من دخلها يخلد فيها أبد الآباد .

( والثاني ) :

قول من يقول إن أهلها يعذبون مدة فيها ثم تنقلب عليهم ، وتبقى طبائعهم نارية يتلذذون بالنار لموافقتها طبائعهم ، وهذا قول ابن عربي الطائي في كتاب فصوص الحكم وغيره من كتبه .

( الثالث ) :

قول من يقول إن أهل النار يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها ، ويخلفهم فيها قوم آخرون ، وهذا القول حكاه اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأكذبهم فيه ، وقد أكذبهم الله تعالى أيضا في قوله : ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) فهذا القول إنما هو قول أعداء الله اليهود ، فهم [ ص: 235 ] شيوخ أربابه والقائلين به ، وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين وأئمة الدين على فساده .

( الرابع ) :

قول من يقول : يخرجون منها وتبقى نارا بحالها ليس فيها أحد يعذب ، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض أهل الفرق ، قال : والقرآن والسنة يردان هذا القول .

( الخامس ) :

قول من يقول : تفنى النار بنفسها لأنها حادثة كانت بعد أن لم تكن ، وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه وأبديته ، وهذا قول جهم بن صفوان وشيعته ، ولا فرق عنده بين الجنة والنار .

( السادس ) :

قول من يقول : تفنى حياتهم وحركاتهم ويصيرون جمادا لا يتحركون ولا يحسون بألم ، وهذا قول أبي الهذيل العلاف أحد أئمة المعتزلة طردا لامتناع حوادث لا نهاية لها ، والجنة والنار عنده سواء في هذا الحكم .

( السابع ) :

قول من يقول إن الله تعالى يفنيها لأنه ربها وخالقها لأنه تعالى - على زعم أرباب هذا القول - جعل لها أمدا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها ، قال شيخ الإسلام : وقد نقل هذا عن طائفة من الصحابة ، والتابعين .

ولشيخ الإسلام وتلميذه الإمام المحقق ميل إلى هذا القول ، وذكر على تأييده بضعا وعشرين وجها ، ثم قال :

وما ذكرناه في هذه المسألة من صواب فمن الله ، وهو المان به ، وما كان من خطإ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه ، والله عند لسان كل قائل وقصده ، والله أعلم . انتهى .

وقد ألف العلامة الشيخ مرعي الكرمي الحنبلي رسالة سماها توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين .

التالي السابق


الخدمات العلمية