لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الثالثة ) : اختلف العلماء في رؤية خاتم الأنبياء لربه إله الأرض والسماء في ليلة المعراج التي هي في حقه - صلى الله عليه وسلم - أفضل من ليلة القدر وأسمى ، فأثبتها حبر الأمة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ورجحه النووي ، وقال : والحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء ، الحديث ، ابن عباس رضي الله عنهما ، وهذا قول أنس وعكرمة والحسن والربيع بن [ ص: 251 ] سليمان وجماعة من المفسرين ، قال القرطبي : قد ثبت ذلك - يعني رؤية الباري جل شأنه - سمعا بقوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا لتساوي الوقتين بالنسبة إلى الموتى .

كذا قال ، وقال القاضي عياض : رؤية الله تعالى جائزة عقلا ، وتثبت الأخبار الصحيحة المشهورة وقوعها للمؤمنين في الآخرة ، وأما في الدنيا فقال مالك : إنما لم ير سبحانه في الدنيا لأنه باق ، والباقي لا يرى بالفاني ، فإذا كان في الآخرة رزقوا أبصارا باقية فرأوا الباقي بالباقي .

قال القاضي عياض : وليس في الكلام استحالة الرؤية إلا من حيث القدرة ، فإذا أقدر الله من شاء من عباده عليها لم يمتنع ، وقد وقع في صحيح مسلم ما يؤيد هذه التفرقة في حديث مرفوع فيه ( واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا ) وأخرجه ابن خزيمة من حديث أبي أمامة ، ومن حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنهما - فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلا فقد امتنعت سمعا ، لكن من أثبتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - له أن يقول : إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه . كذا في الفتح ، قال : وقد اختلف السلف في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه فذهب جماعة إلى إثباتها ، وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حلف أن محمدا رأى ربه ، وجزم ابن خزيمة عن عروة بن الزبير بإثباتها ، وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة ، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس - رضي الله عنهما ، وجزم به كعب الأحبار والزهري وصاحبه معمر وآخرون ، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه ، ثم اختلفوا هل رآه بعينه أو بقلبه ؟ وعن الإمام أحمد - رضي الله عنه - كالقولين ، قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : جاءت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أخبار مطلقة وأخرى مقيدة ، قال : فيجب حمل مطلقها على مقيدها ، ذلك ما أخرجه النسائي بسند صحيح وصححه الحاكم أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى والرؤية لمحمد .

وأخرجه ابن خزيمة بلفظ : إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة - الحديث .

وأخرج ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي سلمة ، أن ابن [ ص: 252 ] عمر أرسل إلى ابن عباس - رضي الله عنهم : هل رأى محمد ربه ؟ فأرسل إليه أن نعم . ومنها ما أخرجه مسلم من طريق أبي العالية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى ( ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى ) قال رأى ربه بفؤاده مرتين . وله من طريق عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : رآه بقلبه .

وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء عن ابن عباس أيضا قال : لم يره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعينه ، إنما رآه بقلبه .

وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس - رضي الله عنه - قال : رأى محمد ربه . وعند مسلم من حديث أبي ذر أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : " نور أنى أراه " وللإمام أحمد عنه - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم : " رأيت نورا " ولابن خزيمة عنه قال : رآه بقلبه ولم يره بعينه ، وبهذا يتبين مراد أبي ذر - رضي الله عنه - بذكر النور ، أي : النور حال ( بينه ) وبين رؤيته له ببصره .

والحاصل أن في هذه المسألة ثلاث أقوال ، أحدها ثبوت رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه ، وهو قول ابن عباس وأتباعه ، وهو ظاهر ما ذهب إليه الإمام أحمد - رضي الله عنه ، فقد روى الخلال في كتاب السنة عن أبي بكر المروذي قال : قلت لأحمد : إنهم يقولون : إن عائشة قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، فبأي شيء يدفع قولها ؟ قال : بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : " رأيت ربي " ، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أكبر من قولها .

وجنح ابن خزيمة في كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات ، وأطنب في الاستدلال له بما يطول ذكره ، وحمل ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من قوله إنه إنما رآه بقلبه على أن الرؤيا وقعت مرتين مرة بعينه ومرة بقلبه .

( الثاني ) : منع ذلك في الدنيا ، وهو قول عائشة الصديقة بنت الصديق - رضي الله عنهما - قالت رضي الله عنها : من زعم أن محمدا رأى ربه بعين رأسه فقد أعظم الفرية على الله .

وروى الترمذي عن الشعبي قال : لقي ابن عباس - رضي الله عنهما - كعبا بعرفة فسأله عن شيء ، فكبر حتى جاوبته الجبال ، فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم - وزاد عبد الرزاق : نقول إن محمدا رأى ربه [ ص: 253 ] مرتين . فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلمه ، زاد عبد الرزاق : بين موسى ومحمد ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين .

قال مسروق : فدخلت على عائشة فقلت : هل رأى محمد ربه ؟ قالت : لقد قف شعري - أي قام من الفزع لما حصل - عندها من هيبة الله واعتقدته من تنزيهه تعالى واستحالة وقوع ذلك ، ثم قالت له : - أين أنت من ثلاث آيات ؟ من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، وفي لفظ : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، ثم قرأت ( لا تدركه الأبصار ) - ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ) ولكن رأى جبريل في صورته مرتين .

وفي صحيح البخاري ومسلم وسنن الترمذي أن مسروقا قال : قلت لعائشة : يا أمتاه - أصله يا أم والهاء للسكت فأضيف إليها ألف الاستغاثة فأبدلت تاء وزيدت هاء السكت بعد الألف - هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت ، أين أنت من ثلاث ؟ من حدثكهن فقد كذب ، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت الآيتين ، ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) ومن حدثك أنه كتم شيئا من كتاب الله فقد كذب ثم قرأت ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) الآية ، ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين ، ووافق عائشة رضي الله عنها على ما ذهبت إليه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه بعين رأسه جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود وأبو هريرة وغيرهم - رضي الله عنهم ، وبه قال جمع العلماء ، بل نقل الدارمي الحافظ إجماع الصحابة على ذلك ، واعترض الإمام النووي وغيره على من ذهب إلى مذهب عائشة بأنها - رضي الله عنها - لم تنف وقوع الرؤية بحديث مرفوع ، ولو كان معها لذكرته ، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرت من ظاهر الآية ، وقد خالفها غيرها من الصحابة ، والصحابي إذا قال قولا فخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا ، والمراد بنفي الإدراك في الآية الكريمة نفي الإحاطة ، وذلك لا ينافي الرؤية . انتهى .

كما قدمنا ذلك موضحا ، وجزمه بأن عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث مرفوع تبع فيه ابن خزيمة ، فإنه قال في كتاب التوحيد من صحيحه : [ ص: 254 ] النفي لا يوجب علما ، قال : ولم تحك عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرها أنه لم ير ربه ، وإنما تأولت الآية . انتهى .

وهذا عجيب منهما ، ففي الصحيحين والترمذي وغيرهما أن مسروقا قال : كنت متكئا عند عائشة رضي الله عنها فقالت : يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بهن فقد أعظم على الله الفرية .

قال : وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله (
ولقد رآه بالأفق المبين ) ( ولقد رآه نزلة أخرى ) فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض . ثم قالت : أولم تسمع أن الله تعالى يقول ( لا تدركه الأبصار ) وقرأت الآيتين
.

وأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى بإسناد مسلم فقالت : أنا أول من سأل - رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن هذا فقلت : يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ فقال : لا ، إنما رأيت جبريل منهبطا .

نعم ، خالف ابن عباس عائشة رضي الله عنها باحتجاجها بالآية الكريمة ، فأخرج الترمذي من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : رأى محمد ربه ، قلت : أليس الله يقول ( لا تدركه الأبصار ) قال : ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وقد رأى ربه مرتين .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - ما نقل عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - من إثبات رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه إنما يعني رؤية المنام ، فإنه سئل عن ذلك ، قال : نعم رآه ، فإن رؤى الأنبياء حق ، ولم يقل إنه رآه بعين رأسه .

وقال شيخ الإسلام أيضا : ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يقل أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه يقظة ، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم ، وهذه نصوصه موجودة ليس فيها شيء من ذلك . قال : ولفظ الإمام أحمد كلفظ ابن عباس . قال : وأهل السنة متفقون على أن الله تعالى لا يراه أحد بعينه في الدنيا لا نبي ولا غير نبي ، ولم يقع النزاع إلا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، مع أن الأحاديث المعروفة ليس في شيء منها أنه رآه ، وإنما روي ذلك بإسناد موضوع باتفاق أهل الحديث . انتهى .

وإذا علم ما حررناه فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة [ ص: 255 ] - رضي الله عنهم - بأن يحمل نفيها على رؤية البصر ، وإثباته على رؤية القلب كما قاله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري .

ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بالله على الدوام ، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره ، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا ولو جرت العادة بخلقها في العين ، وقد مر عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سأله - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنى أراه " ورواه الترمذي أيضا بهذا اللفظ ، ورواه الإمام أحمد عنه قال " رأيت نورا " ، ولابن خزيمة عنه قال : رآه بقلبه ، ولم يره بعينه .

قال الحافظ ابن حجر : وبهذا تبين مراد أبي ذر بذكر النور ، أي : أن النور حال ( بينه و ) بين رؤيته له ببصره .

وقال الإمام المحقق ابن القيم في عدة مواضع من كتبه كإعلام الموقعين والجيوش وغيرهما : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : معناه كان ثم نور وحال دون رؤيته نور فأنى أراه ، ويدل عليه أن في بعض ألفاظ الصحيح : هل رأيت ربك ؟ فقال : رأيت نورا . قال المحقق ابن القيم : وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال : نوراني أراه ، على أنها ياء النسبة والكلمة واحدة ، وهذا خطأ لفظا ومعنى ، وإنما أوجب لهم هذا الفهم أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه وكان قوله " أنى أراه " كالإنكار للرؤية حاروا في الحديث ، وبعضهم رده باضطراب لفظه ، وكل هذا عدول عن موجب الدليل . قال المحقق ابن القيم : ويدل على ما قال شيخنا قوله - صلى الله عليه وسلم : " حجابه النور " ، فهذا النور والله أعلم هو النور المذكور في حديث أبي ذر . انتهى .

وذكر ابن الأسير في حل ألفاظ جامع الأصول : أن الإمام أحمد - رضي الله عنه - سأل عن حديث أبي ذر هذا فقال : مازلت منكرا لهذا الحديث وما أدري ما وجهه . وقال ابن خزيمة : في القلب من صحة هذا الخبر شيء . وقال بعض العلماء في هذا الحديث : قد أجمعنا على أنه تعالى ليس بنور ، وخطأنا المجوس في قولهم هو نور ، والأنوار أجسام ، والباري سبحانه وتعالى ليس بجسم ، والمراد بهذا الحديث أن حجابه سبحانه النور ، وكذلك روي في حديث [ ص: 256 ] أبي موسى - رضي الله عنه ، فالمعنى : كيف أراه وحجابه النور ، والله أعلم .

( الثالث ) : الوقوف عن القطع بالنفي أو الإثبات في هذه المسألة ، وقد رجح هذا جماعة منهم القرطبي في المفهم في شرح صحيح مسلم ، فإنه قال : الوقوف في هذه المسألة أرجح ، وعزاه لجماعة من المحققين ، وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع ، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل ، قال : وليست المسألة من العمليات فيكتفى فيها بالأدلة الظنية ، وإنما هي من المعتقدات ، فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعي . ومن استنار قلبه لاقتفاء الآثار وخلع ربقة التقليد التي هي مثار التغيير في وجوه الأخبار علم أن السلامة في التسليم ، وفوق كل ذي علم عليم ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية