لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( ( ولم تزل فيما مضى الأنباء من فضله تأتي لمن يشاء ) )      ( ( حتى أتى بالخاتم الذي ختم
به وأعلانا على كل الأمم ) )



( ( ولم تزل فيما ) ) أي في الزمن الذي ( ( مضى ) ) أي في سائر الأزمان الماضية ( ( الأنباء ) ) جمع نبي كالأنبياء والنبيين ( ( من فضله ) ) أي : من فضل الله سبحانه وتعالى ورأفته ولطفه لا من حيث أنه واجب عليه تعالى - كما تقدم بيانه ( ( تأتي ) ) بإبلاغ الشرائع وبيان الحق وإيضاح السبيل ( ( لمن ) ) أي : لكل أهل زمن من الأمم الماضية والقرون الخالية ( ( يشاء ) ) الله سبحانه وتعالى بتبليغ ما يشاء على ألسنة من شاء من أنبيائه لمن شاء من مكلفي عباده ، فلم تخل الأرض من داع يدعو إلى الله تعالى من لدن آدم عليه السلام إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فيجب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل ، وأنهم صادقون في ما أخبروا به عن الله تعالى إجمالا في من لم يعينوا ، كما دل على ذلك قوله تعالى ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) فدلت الآية الكريمة على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل إلا من تثبت تسميته ، فيجب الإيمان به على التعيين ، وكان مجيء الرسل والأنبياء في القرون الماضية والأزمان الخالية معروفا مستمرا من لدن الأب الأول الصفي عليه السلام ( ( حتى ) ) أي : إلى أن ( ( أتى بـ ) ) النبي ( ( الخاتم ) ) والرسول القائم نبينامحمد - صلى الله عليه وسلم - أي : إلى أن أرسله بخير كتاب وأتم شريعة وأفضل ملة وأكمل دين ( ( الذي ختم ) ) الله ( ( به ) ) النبيين والمرسلين ، وأكمل بدينه كل دين ، قال الله تعالى في محكم الذكر المبين : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) أي : الذي ختمهم وختموا به ، فلا نبي بعده ، وأخرج الإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية السلمي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ( إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ) ) الحديث ، وأخرجه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ، وروي معناه من حديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - ومن [ ص: 270 ] وجوه أخر مرسلة ، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكمله وأحسنه إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يدخلون ويعجبون منها ويقولون : لولا موضع اللبنة - زاد مسلم - فجئت فختمت الأنبياء ) ) وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - معناه وفيه : فجعل الناس يطوفون به ويقولون : هلا وضعت اللبنة ، فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين ) ) .

وفي صحيح الحاكم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان بمكة يهودي يتجر فيها ، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ فقالوا : لا نعلمه ، فقال : ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة لها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس ، فخرجوا باليهودي حتى أدخلوه على أمه ، فقالوا : أخرجي لنا ابنك ، فأخرجوه وكشفوا عن ظهره ، فرأى تلك الشامة ، فوقع اليهودي مغشيا عليه ، فلما أفاق قالوا : ويلك ما لك ؟ قال : ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل . وهذا الحديث يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ولد بخاتم النبوة بين كتفيه ، وخاتم النبوة من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم - التي كان يعرفه بها أهل الكتاب ، ويسألون عنها ويطلبون الوقوف عليها .

وقد روي أن هرقل ملك الروم من النصارى أرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من ينظر له خاتم النبوة . وفي نبوة شعيا أن سلطانه - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - على كتفه يريد علامة نبوته .

وفي الجواب الصحيح لشيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - ما نصه : قال أشعياء النبي عليه السلام ونص على خاتم النبوة : ولد لنا غلام يكون عجبا وبشرا ، والشامة على كتفيه آركون السلام ، وسلطانه سلطان السلام ، يجلس على كرسي داود . فالآركون هو المعظم بلغة الإنجيل ، والأراكنة المعظمون ، فشهد أشعياء بنبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ووصفه بأخص علاماته وأوضحها ، وهى شامته ، فلعمري لم تكن الشامة لسليمان ولا للمسيح ، ووصفه بأنه يجلس على كرسي داود يعني أنه سيرث من بني إسرائيل نبوتهم ، وملكهم ، ويبتزهم رياستهم .

قال العلماء - رحمهم الله - في حكمة وجود الخاتم بين كتفيه أو على نغض كتفه [ ص: 271 ] الأيسر : هو على جهة الاعتبار أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ملئ قلبه من الإيمان والأنوار ، وجمع له أجزاء النبوة وحواشيها ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا ، فلم تجد نفسه ولا عدوه سبيلا إليه من أجل ذلك الختم ؛ لأن الشيء المختوم محروس كما بين لنا أنا إذا وجدنا الشيء بختمه زال الشك ، وانقطع الخصام فيما بين الآدميين ، فلذلك ختم رب العالمين في قلبه ختما يطمئن له القلب ، ألقى النور فيه ونفذت قوة القلب فظهر بين كتفيه كبيضة الحجلة كما أشار إليه أبو القاسم السهيلي - رحمه الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية