[ ص: 299 ]  ( ( وبعده الأفضل أهل العزم  فالرسل ثم الأنبيا بالجزم ) )  
   ( ( وبعده ) ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ( ( الأفضل ) ) من سائر الخلق هم ( ( أهل العزم ) ) أي أهل الثبات والجد من الرسل ، وهم على المشهور  
إبراهيم الخليل   وموسى الكليم   وعيسى الروح   ونوح النجي   فيكونون خمسة بنبينا  
محمد      - صلى الله عليه وسلم - ، وهم المذكورون في قوله تعالى : (  
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم     ) ، فإنهم أصحاب الشرائع ، وقدم نبينا - صلى الله عليه وسلم - تعظيما له وتكريما لشأنه ، وهؤلاء الذين اجتهدوا في تأسيس الشرائع وتقريرها ، وصبروا على تحمل المشاق من قومهم ومعاداة الطاغين فيها ، وقيل : إنما كانوا هم أولي العزم لصبرهم على البلاء من الله تعالى ،  
فنوح   صبر على أذى قومه فإنهم كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ،  
وإبراهيم   صبر على النار وذبح ولده ، وقد قيل : كل الرسل من أولي العزم فمن للتبيين لا للتبعيض ، وقد  قال  
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس     - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : (  
فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل     ) : ذوو الحزم .  
وقال  
الضحاك     : ذوو الجد والصبر ،  قال  
ابن زيد     : كل الرسل كانوا أولي عزم لم يبعث الله نبيا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل ، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبعيض كما يقال اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز     . وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا  
يونس      - عليه السلام - لعجلة كانت منه ، ألا ترى أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : (  
ولا تكن كصاحب الحوت     ) ؟ وقال قوم : أولو العزم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر لقوله تعالى بعد ذكرهم : (  
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده     ) ، وقال  
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس     - رضي الله عنهما -  
وقتادة     :  
نوح   وإبراهيم   إلخ . وهو المشهور كما قدمنا آنفا .  
وأخرج  
البغوي  في تفسيره  
 nindex.php?page=showalam&ids=11868وأبو الشيخ بن حيان  عن  
مسروق  قال : قالت لي  
عائشة     - رضي الله عنها - : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "  
يا  عائشة  إن الدنيا لا تنبغي  لمحمد   ولا  لآل محمد   ، يا  عائشة  إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ، فلم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم فقال :      [ ص: 300 ]    (  فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل     ) وإني والله لا بد لي من طاعته ، والله لأصبرن كما صبروا وأجهدن ( كما جهدوا ) ولا قوة إلا بالله     " .  
وقد اختلف العلماء  
فيمن يلي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفضيلة منهم  والمشهور ، واختاره  
الحافظ ابن حجر  في شرح  
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  أنه  
إبراهيم خليل الرحمن   ، لما ورد أن  
إبراهيم      - عليه السلام - خير البرية خص منه  
محمد      - صلى الله عليه وسلم - بإجماع ، فيكون أفضل من  
موسى   وعيسى   ونوح      - عليهم السلام - والثلاثة بعد  
إبراهيم   أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين ، قال  
الحافظ ابن حجر     : ولم أقف على نقل أيهم أفضل ، والذي ينقدح في النفس تفضيل  
موسى   فعيسى   فنوح      - عليهم الصلاة والسلام - .  
قال بعض العلماء : لعل تقديم  
موسى      - عليه السلام - لأنه كلمه الله ثم  
عيسى      - عليه السلام - لأنه كلمة الله ، وقال بعض المحققين : الواجب اعتقاده أفضلية الأفضل على طبق ما ورد الحكم به تفصيلا في التفصيلي وإجمالا في الإجمالي ، ثم إن تعين لنا نص من الشارع على الوجه الذي جعله سببا لأفضليته قلنا به ، وإلا أمسكنا عنه لأن التفضيل راجع لاختيار الباري - سبحانه وتعالى - لا لعلة موجبة وجدت في الفاضل وفقدت من المفضول ، ولله تعالى أن يفضل من عبيده من يشاء بما يشاء على من يشاء منهم ، وإن كان كل واحد منهم كاملا في نفسه بالغا من ذلك الغاية التي تليق به من غير أن يحمله على ذلك وصف يكون فيهم ، وذلك مما يجب له سبحانه بحق ربوبيته وسيادته .  
ولا شك أن الفاضل لا يجب أن يفضل بما لم يجعله الله سببا لتفضيله ، وأن المفضول لا يجب أن يجعل مفضولا لسبب لم يجعله الله تعالى سببا لمفضوليته ، وأن الله تعالى لا يحب أن يفاضل أحد بين أحبابه بما لم يجعله سببا للمفاضلة ، فتعين أن الصواب ما أشير إليه من الوقوف على المنقول بالنص القرآني ، والثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه تفصيلا وإجمالا . وبالله التوفيق .  
ثم بعد أولي العزم ( ( ف ) ) الواجب اعتقاده أن يليهم في الأفضلية سائر ( ( الرسل ) ) المكرمين بالرسالة ، فهم أفضل من الأنبياء - عليهم السلام - غير الرسل ، وبه يعلم أن  
الرسالة أفضل من النبوة  ولو في شخص واحد خلافا  
للعز بن عبد السلام   [ ص: 301 ] في قوله إن نبوة النبي أفضل من رسالته لقصرها على الحق تعالى ، إذ هي الإيحاء بما يتعلق بالباري - جل شأنه - من غير ارتباط له بالخلق ، أما مع تعدد المحل فلا خلاف في أفضلية الرسالة على النبوة ضرورة جمع الرسالة لها مع زيادة على أن الصحيح المعتمد أفضلية الرسالة مطلقا ، والله تعالى أعلم .  
( ( ثم ) ) الأفضل بعد الرسل الكرام ( ( الأنبياء ) ) - عليهم أفضل الصلاة والسلام - وهم متفاوتون في الفضيلة ، فبعضهم أفضل من بعض كما قال تعالى : (  
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض     ) فهذا واجب الاعتقاد تفصيلا فيمن علم منهم وعلم حكمه تفصيلا ولو بدليل ظني صحيح ، وإجمالا فيما علم منهم وعلم حكمه إجمالا ، ولهذا قال : ( ( بالجزم ) ) السديد والقطع المفيد للحكم المذكور من غير شك ولا ترديد حسبما تقدم على النهج السديد الأقوم ، وعلم مما ذكر ولا سيما من قوله بالجزم رد زعم  
من زعم أن الولي قد يبلغ درجة النبي  كما يحكى عن  
الكرامية   ، بل  
زعم بعض  الصوفية   أن الولاية أفضل من النبوة  ، قالوا : لأنها تنبئ عن القرب والكرامة كما هو شأن خواص الملك والمقربين منه ، والنبوة عن الإنباء والتبليغ ، كما هو حال من أرسله الملك إلى الرعايا لتبليغ الأحكام ، قالوا : إلا أن الولي لا يبلغ درجة النبي بخلاف العكس ، لأن نبوة النبي لا تكون بدون الولاية .  
وقد شنع  
شيخ الإسلام ابن تيمية   على من يزعم ذلك في محلات من كتبه وقال : إن ذلك مخالف لدين الإسلام  
واليهود   والنصارى   ، وقال في جواب المسائل الإسكندرية بعد ما ذكر شنيع مقالاتهم وزيف ترهاتهم : ولهذا يقولون : إن الولاية أعظم من النبوة ، والنبوة أعظم من الرسالة وينشدون :  
مقام النبوة في برزخ      فويق الرسول ودون الولي  
ويقولون : إن ولاية النبي أعظم من نبوته ، ونبوته أعظم من رسالته ، ثم قد يدعي أحدهم أن ولايته وولاية سائر الأولياء تابعة لولاية خاتم الأولياء ، وأن جميع الأنبياء والرسل من حيث ولايتهم ( التي ) هي أعظم عندهم من نبوتهم ورسالتهم ، إنما يستفيدون العلم بالله الذي هو عندهم القول بوحدة الوجود من مشكاة خاتم الأولياء ، وشبهتهم في أصل ذلك أن قالوا :      
[ ص: 302 ] الولي يأخذ عن الله بغير واسطة والنبي والرسول يأخذ بواسطة ، ولهذا جعلوا ما يلقى في نفوسهم ويجعلونه من باب المخاطبات الإلهية والمكاشفات الربانية أعظم من تكليم  
 nindex.php?page=showalam&ids=17179موسى بن عمران     - عليه السلام - قال : وهي في الحقيقة إيحاءات شيطانية ووساوس نفسانية (  
وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم     ) ، ولو هدوا لعلموا أن أفضل ما عند الولي ما يأخذه عن الرسول ، لا ما يأخذه عن قلبه ، وأن أفضل الأولياء الصديقون وأفضلهم  
أبو بكر     - رضي الله عنه - وكان هو أفضل من  
عمر  مع أن  
عمر  كان محدثا ، كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "  
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026920قد كان قبلكم في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد  فعمر     " . وفي  
الترمذي     : "  
لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم  عمر     " ، وقال : "  
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026922إن الله تعالى ضرب الحق على لسان عمر وقلبه     " .  
ومع هذا فالصديق الذي تلقى من مشكاة النبوة مطلقا أفضل ، لأن مأخذه معصوم من الخطأ ، والمحدث ليس معصوما بل يقع له الصواب والخطأ ، ولهذا يحتاج أن يزنه بميزان النبوة المعصومة .  
وقال  
أبو مجلز  في قوله تعالى : (  
ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين     ) قال : أن يسأل منازل الأنبياء     . ثم تكلم على زعمهم ما زعموا في  
خاتم الأولياء  ، وأن هذه الكلمة لا حقيقة لفضلها ومزيتها ، وإنما تكلم  
 nindex.php?page=showalam&ids=14155أبو عبد الله الحكيم الترمذي  بشيء من ذلك غلطا لم يسبق إليه ولم يتابع عليه ، ومسمى هذا اللفظ هو آخر مؤمن تقي يكون ، وليس ذلك أفضل الأولياء باتفاق المسلمين ، بل أفضل الأولياء سابقهم وأقربهم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو  
أبو بكر  ثم  
عمر     - رضي الله عنهما - كما يأتي ، إذ الأولياء يستفيدون من الأنبياء كما يأتي ، فأقربهم إلى الرسول أفضلهم بخلاف خاتم الرسل ، فإن الله تعالى أرسله بالرسالة لم يحله على غيره ، فقياس مسمى أحد اللفظين على الآخر في وجوب كونه أفضل من أفسد القياس .  
وقال شيخ الإسلام - روح الله روحه - في مكان آخر في التنكيت على من جعل خاتم الأولياء أفضل من الرسل والأنبياء : وزعم هؤلاء أن الرسل جميعهم والأنبياء يستفيدون علم المعرفة بالله تعالى من مشكاة الذي جعلوه خاتم الأولياء ، وجعلوه أفضل من خاتم الرسل من الحقيقة والعلم به ، وأنه يأخذ عن الأصل من حيث    
[ ص: 303 ] يأخذ الملك الذي يوحي إلى خاتم الرسل ، فإن خاتم الرسل إنما هو سيد في الشفاعة ، فسيادته في هذا المقام الخاص لا على العموم ، قال هؤلاء : وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء ، وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم ، حتى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء ، فإن الرسالة والنبوة - أعني نبوة التشريع ورسالته - ينقطعان ، والولاية لا تنقطع أبدا ، فالمرسلون من ( حيث ) كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه - يعني من الحقيقة والعلم بالله ومعرفته - إلا من مشكاة خاتم الأولياء ، فكيف من دونهم من الأولياء ؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ، ولا يناقض ما ذهب إليه هؤلاء فيما يزعمون ، قالوا : فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلى .  
وذكر شيخ الإسلام عنهم من مثل هذه الترهات أشياء كثيرة ينبو عنها السمع ، وناقشهم عليها مناقشة تامة ، ولا يخفى على أحد من أهل الملة أن أفضل الخلق الرسل ، فالأنبياء ، فالصحابة ، فالأولياء ، وإن دخل بعضهم في بعض في الجملة . والله تعالى الموفق .