لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( ( واحذر من الخوض الذي قد يزري بفضلهم مما جرى لو تدري ) )      ( ( فإنه عن اجتهاد قد صدر
فاسلم أذل الله من لهم هجر ) )

[ ص: 386 ] ( ( واحذر ) ) حذر إذعان وتسليم مع سلامة صدر وامتثال أمر النبي الكريم ( ( من الخوض ) ) المفضي إلى التوسع والتنقيب والتبجح والتأنيب ( ( الذي قد يزري ) ) وينقص ويحط ( ( بفضلهم ) ) المعلوم من الكتاب والسنة عند ذوي العلوم مما ذكرنا فيما تقدم شذرة صالحة منه ( ( مما ) ) أي من الاختلاف والتخاصم والتشاجر الذي ( ( جرى ) ) بينهم ( ( لو ) ) كنت ( ( تدري ) ) غب ذلك الخوض المفضي إلى توليد الإحن وحزازات القلوب والحقد على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك من أعظم الذنوب ، فإنهم خير القرون ، وهم السابقون الأولون ، وذلك أنه جرى بين علي ومعاوية وقبلهما وبعدهما من المنازعات والمقاتلات ما لو صدرت من سواهم ، أو كانت من غيرهم لم تقصر عن التفسق ، فضلا عن غيره ، والجواب عن ذلك ما أشير إليه بقوله ( ( فإنه ) ) أي التخاصم والنزاع والتقاتل والدفاع الذي جرى بينهم ، كان ( ( عن اجتهاد قد صدر ) ) من كل واحد من رءوس الفريقين ، ومقصد سائغ لكل فرقة من الطائفتين ، وإن كان المصيب في ذلك للصواب واحدا ، وهو علي رضوان الله عليه ومن والاه ، والمخطئ هو من نازعه وعاداه ، غير أن للمخطئ في الاجتهاد أجرا وثوابا ، خلافا لأهل الجفاء والعناد ، فكل ما صح مما جرى بين الصحابة الكرام وجب حمله على وجه ينفي عنهم الذنوب والآثام ، فمقاولة علي مع العباس - رضي الله عنهما - لا تقضي إلى شين ، وتقاعد علي - رضوان الله عليه - عن مبايعة الصديق الأعظم في بدء الأمر كان لأحد أمرين : إما لعدم مشورته كما عتب عليه بعد ذلك ، وإما وقوفا مع خاطر سيدة نساء العالم فاطمة البتول - عليها السلام - مما ظنت أنه لها ، وليس الأمر كما هنالك ، ثم إن عليا بايع الصديق - رضي الله عنهما - على رءوس الأشهاد ، فاتحدت الكلمة ولله الحمد وحصل المراد ، وتوقف علي - رضي الله عنه - عن الاقتصاص من قتلة عثمان ، إما لعدم العلم بالقاتل ، وإما خشية تزايد الفساد والطغيان ، وكانت عائشة وطلحة والزبير ومعاوية - رضي الله عنهم - ومن اتبعهم ما بين مجتهد ومقلد في جواز محاربة أمير المؤمنين ، سيدنا أبي الحسنين ، الأنزع البطين - رضوان الله عليه - وقد اتفق أهل الحق أن المصيب في تلك الحروب والتنازع [ ص: 387 ] أمير المؤمنين علي - رضوان الله عليه - من غير شك ولا تدافع ، والحق الذي ليس عنه نزول أنهم كلهم - رضوان الله عليهم - عدول ، لأنهم متأولون في تلك الخصومات ، مجتهدون في هاتيك المقاتلات ، فإنه وإن كان الحق على المعتمد عند أهل الحق واحدا ، فالمخطئ مع بذل الوسع وعدم التقصير مأجور لا مأزور ، وسبب تلك الحروب اشتباه القضايا ، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم ، وصاروا ثلاثة أقسام : قسم ظهر لهم اجتهادا أن الحق في هذا الطرف ، وأن مخالفه باغ فوجب عليهم نصرة المحق ، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ، ففعلوا ذلك ، ولم يكن لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة الإمام العادل في قتال البغاة في اعتقاده ، وقسم عكسه سواء بسواء ، وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية ، فلم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين ، فاعتزلوا الفريقين ، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم ، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر ما يوجب ذلك ، وبالجملة فكلهم معذورون ومأجورون لا مأزورون ، ولهذا اتفق أهل الحق ممن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم ، وثبوت عدالتهم ، ولهذا قال علماؤنا كغيرهم من أهل السنة ومنهم ابن حمدان في نهاية المبتدئين : يجب حب كل الصحابة ، والكف عما جرى بينهم كتابة وقراءة وإقراء وسماعا وتسميعا ، ويجب ذكر محاسنهم ، والترضي عنهم ، والمحبة لهم ، وترك التحامل عليهم ، واعتقاد العذر لهم ، وأنهم فعلوا ما فعلوا باجتهاد سائغ لا يوجب كفرا ولا فسقا ، بل ربما يثابون عليه ، لأنه اجتهاد سائغ ، ثم قال : وقيل : المصيب علي ، ومن قاتله فخطؤه معفو عنه . وإنما نهى عن الخوض في النظم ، لأن الإمام أحمد كان ينكر على من خاض ، ويسلم أحاديث التفاضل ، وقد تبرأ - رضي الله عنه - ممن ضللهم أو كفرهم ، وقال : السكوت عما جرى بينهم . وقال بعض المحققين : البحث عن أحوال الصحابة - رضوان الله تعالى عنهم أجمعين - وعما جرى بينهم من الموافقة والمخالفة ليس من العقائد الدينية ، ولا من القواعد الكلامية ، وليس هو مما ينتفع به في الدين ، بل ربما أضر باليقين ، وإنما ذكر العلماء نتفا في كتبهم ، صونا للقاصرين عن التأويل عن اعتقاد ظواهر حكايات الرافضة ورواياتها ، ليتجنب من لا يصل إلى [ ص: 388 ] حقيقة علمها ، ولأن الخوض في ذلك إنما يصلح للتعليم ، وللرد على المتعصبين ، أو لتدريس كتب تشتمل على تلك الآثار ، فيؤول ذلك ، ويبينه للعوام ، لفرط جهلهم بالتأويل مع أن غالب أو كل ما يحكيه الرافضة موضوع ، وأكثره باطل مصنوع ، فلا جرم السلامة في التسليم ، وكف اللسان عن هذا المدخل الضيق العظيم ، ولهذا قال : ( ( فاسلم ) ) من الخوض في تلك البحور ، واحذر من العثار في ذلك الغطش الديجور ، فإن من قارب الفتنة افتتن ، ومن تعرض بدينه للشبهات والشهوات اختبن ، ثم إن الناظم دعا على طائفة الجفاء والفجور وأهل الرفض والضلال ممن حاد عن الأمر المأمور ، فقال : ( ( أذل الله ) ) - سبحانه وتعالى - وقد فعل ( ( من ) ) كل مبتدع من الرافضة ومن وافقهم ( ( لهم ) ) أي للصحابة الكرام أو لبعضهم ( ( هجر ) ) وعادى ولم يوال ويحب .

وقد روى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه : " إذا أراد الله تعالى برجل من أمتي خيرا ألقى حب أصحابي في قلبه " . وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - مرفوعا : " الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه " . والذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة أنه يجب على كل أحد تزكية جميع الصحابة ، بإثبات العدالة لهم ، والكف عن الطعن فيهم ، والثناء عليهم ، فقد أثنى الله سبحانه عليهم في عدة آيات من كتابه العزيز ، على أنه لو لم يرد عن الله ولا عن رسوله فيهم شيء لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة ، والجهاد ، ونصرة الدين ، وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والأولاد ، والمناصحة في الدين ، وقوة الإيمان واليقين ، القطع بتعديلهم ، والاعتقاد لنزاهتهم ، وأنهم أفضل جميع الأمة بعد نبيهم ، هذا مذهب كافة الأمة ، ومن عليه المعول من الأئمة ، وأما من شذ من أهل الزيغ والابتداع ، ممن ضل وأضل فلا التفات إليهم ولا معول عليهم ، ولهذا قال الإمام أبو زرعة العراقي - من أجل شيوخ مسلم - : إذا رأيت الرجل ينتقص [ ص: 389 ] أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن القرآن حق ، والرسول حق ، وما جاء به حق ، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة ، فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة ، فيكون الجرح به أليق ، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق . وقال ابن حزم : الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعا قال تعالى : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) وقال تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) فثبت أن جميعهم من أهل الجنة . والحاصل أنه لا يهجر الصحابة ويعاديهم إلا عدو لله مبعود من رحمة الله خبيث زنديق ، والله ولي التوفيق .

قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين : من سب أحدا من الصحابة مستحلا كفر ، وإن لم يستحل فسق ، وعنه : يكفر مطلقا ، وإن فسقهم أو طعن في دينهم أو كفرهم كفر ، والله تعالى أعلم . ولما أنهى الكلام عن الصحابة الكرام ، حسبما يقتضيه المقام ، وإن كان ما ذكر في جنب ما سكت عنه كقطرة من بحر طام ، وذبالة من نور عام ؛ ذكر التابعين لهم بإحسان ، ثم تابعيهم كما قال خير الأنام ، فقال :

التالي السابق


الخدمات العلمية