لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( ( فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) )

ولما كان صلاح العباد في المعاش والمعاد لا يتم ولا يصلح ولا يستقيم لهم حال إلا بذلك قال :

( ( واعلم بأن الأمر والنهي معا فرضا كفاية على من قد وعا ) )


( ( وإن يكن ذا واحدا تعينا     عليه لكن شرطه أن يأمنا ) )


( ( فاصبر وزل باليد واللسان     لمنكر واحذر من النقصان ) )

( ( واعلم ) ) أيها المتبحر في علم أصول الدين المحرر لدعائم الدين وقواعد الحق المبين ( ( بأن الأمر ) ) أي بالمعروف ، وتقدم أنه اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس كما تقدم قريبا ، ( ( والنهي ) ) عن المنكر وهو ضد المعروف ( ( معا ) ) أي كل واحد منهما [ ص: 427 ] منفردا وكلاهما ( ( فرضا كفاية ) ) على جماعة المسلمين يخاطب به الجميع ويسقط بمن يقوم به ، بخلاف فرض العين فإنه يجب على كل واحد ولا يسقط عنه بفعل غيره ، ( ( على من ) ) أي إنسان أو الذي ( ( قد وعا ) ) أي حفظ حكمه وعلمه وذلك لأن إصلاح المعاش والمعاد إنما هو بطاعة الله ورسوله وامتثال أوامره والانتهاء عن زواجره ، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس قال تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) ، وقال تعالى : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) ، وقال تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) ، وقال عن بني إسرائيل : ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) ، وفي الحديث الثابت عن أمير المؤمنين أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه خطب الناس على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه " . وفي لفظ من عنده ، رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، وابن ماجه والنسائي ولفظه : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب " . ، وفي رواية لأبي داود سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب " . وفي رواية : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " .

( ( وإن يكن ذا ) ) أي الذي علم بالمنكر وتحققه وشاهده وهو عارف بما ينكر ( ( واحدا ) ) أو كانوا عددا ولكن لا يحصل المقصود إلا بهم جميعا ( ( تعينا ) ) أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصارا فرض عين ( ( عليه ) ) أو عليهم للزومه عليهم ( ( ولكن شرطه ) ) أي شرط افتراضه على الجماعة [ ص: 428 ] أو الواحد سواء كانا فرض كفاية أو عين ( ( أن يأمنا ) ) بألف الإطلاق على نفسه وماله ولم يخف سوطا ولا عصا ولا أذى ولا فتنة تزيد على المنكر ، وقيل إذا زادت وجب الكف ، وإن تساويا سقط الإنكار . قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - : يأمر بالرفق والخضوع ، فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد أن ينتصر . ولهذا قال : " فاصبر " على الأذى ممن تأمره وتنهاه ولا تغضب لنفسك ، بل لله ، ( وزل ) المنكر وغيره من زاله عن مكانه يزيله زيلا وإزالة وإزالا ( ( باليد ) ) وهو أعلى درجات الإنكار ، وإزالة المنكر كإراقة الخمر ، وكسر أواني الذهب والفضة ، والحيلولة بين الضارب والمضروب ونحوه ، ورد المغصوب إلى مالكه ، ( ( و ) ) غير المنكر بـ ( ( اللسان ) ) حيث لم تستطع تغييره باليد بأن تعظه وتذكره بالله وأليم عقابه وتوبخه وتعنفه مع لين وإغلاظ بحسب ما يقتضيه الحال ، وقد يحصل المقصود في بعض المحال بالرفق والسياسة بأزيد وأتم مما يحصل بالعنف والرياسة ، كأن يقول لمن رآه متكشفا في نحو حمام : استر سترك الله ، ونحو ذلك ( ( لمنكر ) ) متعلق بزل وفي نسخة بدل زل " ذد " أي اطرد وامنع للمنكر باليد واللسان ، ( ( واحذر ) ) من النزول عن أعلى المراتب حيث قدرت على أن تغير المنكر بيدك إلى أوسطها وهو الإنكار باللسان إلا مع العجز عن ذلك ، ثم إنه لا يسوغ لك العدول عن التغيير للمنكر باللسان وأنت تقدر عليه إلى الإنكار بالقلب ، فإن لم تستطع تغيير المنكر لا بيدك ولا بلسانك فاعدل إلى الإنكار بقلبك وهو أضعف الإيمان ، فلذا حذر ( ( من النقصان ) ) .

وأشار بذلك إلى حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " . رواه مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي ، ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من رأى منكم منكرا فغيره بيده فقد برئ ، ومن لم يستطيع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ ، ومن لم يستطيع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ ، وذلك أضعف الإيمان " . وفي صحيح مسلم أيضا من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 429 ] وسلم - قال : " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " . وفي هذا الباب عدة أحاديث وقد دلت كلها على إنكار المنكر بحسب القدرة عليه ، وأن إنكاره بالقلب لا بد منه ، فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه .

وقد روي عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال قال علي - رضي الله عنه - : إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ، ثم الجهاد بألسنتكم ، ثم الجهاد بقلوبكم ، فمن لم يعرف قلبه المعروف ، وينكر قلبه المنكر نكس ، فجعل أعلاه أسفله . وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : هلك من لم يعرف المعروف وينكر المنكر بقلبه . يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد ، فمن لم يعرفه هلك ، وأما الإنكار باليد واللسان فإنما يجب بحسب الطاقة . وفي سنن أبي داود عن العرس بن عميرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها " . وخرج ابن أبي الدنيا نحوه عن أبي هريرة مرفوعا .

واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع كون ذلك واجبا تارة يحمل عليه رجاء الثواب ، وتارة خوف العقاب في تركه ، وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه ، وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم ، ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض لغضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة ، وتارة يحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته وأنه أهل أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وأن يفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال كما قال بعض السلف : وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله وأن لحمي قرض بالمقاريض .

فمن لحظ ما ذكرناه هان عليه ما يلقاه من الأذى في الله - عز وجل - ، قال سفيان الثوري - قدس الله روحه - : لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كانت فيه خصال ثلاث : رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى ، عدل بما يأمر عدل [ ص: 430 ] بما ينهى ، عالم بما يأمر عالم بما ينهى . وقال الإمام أحمد - رضي الله عنه - : الناس يحتاجون إلى مداراة ورفق ، الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجل معلن بالفسق فلا حرمة له . ولاعتبار كون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عدلا بما ينهى ، أشار بقوله :

التالي السابق


الخدمات العلمية