لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( ( الخاتمة ) )

( نسأل الله تعالى حسن الخاتمة )

في فوائد جليلة وفوائد جزيلة لا يسع من خاض في مثل هذه العلوم الجهل بها ، وهي قسمان : مفردات ومركبات كما قال الإمام الموفق ، ولذا قال :

( ( مدارك العلوم في العيان محصورة في الحد والبرهان ) )


( ( وقال قوم عند أصحاب النظر     حس وإخبار صحيح والنظر ) )



( ( مدارك العلوم ) ) المدارك جمع مدرك من أدرك الشيء بالشيء ، واستدركه حاول إدراكه به وأدرك الشيء أحاط به وبلغ وقته وانتهى إلى العلم به والإحاطة بحكمه ، والمراد المدرك بالعقول لأنا نشاهد قطعا آثار العقول في الآراء والحكم والحيل وغيرها متفاوتة ، وذلك يدل على [ ص: 437 ] تفاوت العقول في نفسها ، والعقول جمع عقل وهو لغة المنع سمي به لمنعه صاحبه من الرذائل والقبائح ، ولذا لا يطلق عليه تعالى العاقل ، واصطلاحا ما يحصل به الميز بين المعلومات ، وعن الإمام الشافعي أنه قال : العقل آلة التمييز والإدراك . وهو غريزة ، قاله الإمام أحمد - رضي الله عنه - وقال الحارث المحاسبي : ليس مكتسبا بل خلقه الله تعالى يفارق به بين الإنسان والبهيمة ، ويستعد به لقبول العلم وتدبير الصنائع الفكرية ، فكأنه نور يقذف في القلب كالعلم الضروري ، والصبا ونحوه حجاب له ، قال القاضي وغيره : إنه غير مكتسب كالضروري ، وقال البربهاري من أصحابنا : ليس العقل بجوهر ولا عرض ولا اكتساب ، وإنما هو فضل من الله تعالى . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - : وهذا يقتضي أنه القوة المدركة كما دل عليه كلام الإمام أحمد لا الإدراك ، وهو بعض العلوم الضرورية عند أصحابنا ، والأكثر يستعد بها لفهم دقائق العلوم وتدبير الصنائع الفكرية ، وقاله أبو بكر الباقلاني وابن الصباغ وغيرهما ، فخرجت العلوم الكسبية ، لأن العاقل يتصف بكونه عاقلا مع انتفاء العلوم النظرية ، وإنما قالوا بعض العلوم الضرورية لأنه لو كان جميعها لوجب أن يكون الفاقد للعلم بالمدركات غير عاقل لعدم الإدراك المعلق عليها ، والمشاهد خلافه ، ومحل العقل القلب عندنا وعند الشافعية والأطباء وله اتصال بالدماغ ، وروي عن الإمام أحمد أن محله الدماغ وهو قول أبي حنيفة والطوفي من أصحابنا ، وقيل في الدماغ إن قلنا إنه جوهر وإلا ففي القلب . والصحيح أن العقل يختلف كالمدرك به ، وقال الإمام ابن عقيل من علمائنا والأشاعرة والمعتزلة : العقل لا يختلف لأنه حجة عامة يرجع إليه الناس عند اختلافهم ، ولو تفاوتت العقول لما كان كذلك .

وقال غير واحد : العقل عقلان غريزي وتجريبي مكتسب ، فالعقل الغريزي لا يختلف ، وأما الكسبي فيختلف . وحمل العلامة الطوفي الخلاف على ذلك . قوله ( ( في العيان ) ) أي المشاهدة وبادئ النظر لذوي العرفان ( ( محصورة ) ) في شيئين لا ثالث لهما أي محبوسة وممنوعة فيهما ومقصورة عليهما لا تتجاوزهما ( ( في الحد ) ) ، ويأتي الكلام عنه قريبا ( ( و ) ) في ( ( البرهان ) ) هو الحجة [ ص: 438 ] والدليل في الحديث : " الصدقة برهان " . أي أنها حجة لطالب الأجر من أنها قرض يجازي الله به عليه ، وقيل بل هي دليل على صحة إيمان صاحبها لطيب نفسه بإخراجها ، وذلك لعلاقة ما بين النفس والمال . والبرهان عند أهل الميزان قياس مؤلف من مقدمات يقينية لإنتاج يقينيات . واليقين اعتقاد أن الشيء كذا مع اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا مع مطابقته للواقع وامتناع تغيره .

( ( وقال قوم ) ) بل مدارك العلم ( ( عند أصحاب النظر ) ) الفكر والتدقيق والبحث والتحقيق ، أعني علماء النظر وهم النظار من المتكلمة والمنطقيين وعلماء الأصول ثلاثة ، أحدها ( ( حس ) ) أي ما يدرك بأحد الحواس الخمسة وهي جمع حاسة بمعنى القوة الحاسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، فخلق الله تعالى كلا من تلك الحواس لإدراك أشياء مخصوصة ، فالسمع للأصوات ، والذوق للطعوم ، والشم للروائح ، والبصر للمرئيات ، واللمس للملموسات ، وهي القوة المنبثة في جميع البدن ، يدرك بها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك عند التماس والاتصال ، فلا يدرك بواحدة ما يدرك بالحاسة الأخرى والمدرك بشيء منها يقال له محسوس .

( ( و ) ) الثاني ( ( إخبار صحيح ) ) ثابت رجيح مطابق للواقع ، فإن الخبر كلام يحتمل الصدق والكذب احتمالا متساويا بقطع النظر عن قائله ، وله نسبة خارجة فإن طابقته فصادق وإلا فكاذب ، وهذا الخبر هو الذي يفيد العلم على نوعين : ( أحدهما ) المتواتر الثابت على ألسنة قوم لا يتصور تواطؤهم على الكذب ، ومصداقه وقوع العلم من غير شبهة ، وهو موجب للعلم الضروري كالعلم بالملوك الماضية في الأزمنة الخالية والبلدان النائية كوجود مكة وبغداد ، فإن من لم يحسن الاكتساب ولا ترتيب المقدمات من النساء والصبيان يدرك ذلك فلو لم يكن العلم بذلك ضروريا لما أحسنوا ذلك ، وأما خبر النصارى بقتل عيسى - عليه السلام - واليهود بتأبيد دين موسى - عليه السلام - فتواتره ممنوع ، لأن مستنده مجرد الوهم والهوى . فإن قيل خبر كل واحد لا يفيد إلا الظن ، وضم الظن إلى الظن لا يوجب [ ص: 439 ] اليقين ، وأيضا جواز كذب كل واحد يوجب جواز كذب المجموع لأنه نفس الآحاد ؟ فالجواب الهيئة الاجتماعية أوجبت له من القوة ما لم تكن لأفراده كقوة الحبل المؤلف من الشعر مع الشعرات . فإن قيل الضروريات لا يقع فيها تفاوت ولا اختلاف ، ونحن نجد العلم بكون الواحد نصف الاثنين أقوى من العلم بوجود إسكندر والمتواتر قد أنكر إفادته العلم جماعة من العقلاء كالسمنية والبراهمة . فالجواب هذا ممنوع بل قد يتفاوت أنواع الضروري بواسطة التفاوت بالإلف والعادة والممارسة والإخطار بالبال ، وتصور أطراف الأحكام ، وقد يختلف فيه مكابرة وعنادا كالسوفسطائية في جميع الضروريات كما سننبه عليه قريبا .

( النوع الثاني ) من نوعي الخبر المفيد للعلم خبر الرسول المؤيد بالمعجزة الخارقة المقرونة بالتحدي كما مر ، فيوجب العلم الاستدلالي للقطع بأن من أظهر الله تلك المعجزة على يده تصديقا له في دعوى الرسالة لا يكون إلا صادقا فيما أتى به من الأحكام ، وإذا كان صادقا يقع العلم بمضمونها قطعا ، وإنما كان استدلاليا لتوقفه على الاستدلال واستحضار أنه خبر من ثبتت رسالته بالمعجزات ، وكل خبر هذا شأنه فهو صادق ومضمونه واقع ، والعلم الثابت بخبر الرسول يشابه العلم الثابت بالضرورة كالمحسوسات والمتواترات في التيقن والثبات .

( ( و ) ) الثالث من مدارك العلم ( ( النظر ) ) أي الفكر الذي يطلب به علم أو ظن ، قال العلامة شهاب الدين أحمد بن قاضي الجبل من محققي علمائنا : النظر لغة الانتظار والرؤية والرأفة والتفكر ، وعرفا الفكر المطلوب به علم أو ظن فينتقل من أمور حاصلة ذهنا إلى أمور مستحصلة ، وقد يطلق على حركة النفس التي تليها البطن الأوسط من الدماغ المسمى بالدودة أي حركة كانت في المعقولات والمحسوسات تسمى تخيلا لا فكرا ، وقال الإمام ابن عقيل في الواضح : النظر هو الأصل في تحصيل هذا الأمر والطريق إليه ، وهو اسم مشترك يقع على الرؤية بالبصر كما قال تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وعلى الانتظار للمنتظر والتوقع له : ( فناظرة بم يرجع المرسلون ) وهو هاهنا أي في عرف الأصليين التأمل [ ص: 440 ] والتفكر والاعتبار بمعرفة الحق من الباطل ، والفصل بين الحجة والشبهة ، وهو فكرة القلب وتأمله ونظره المطلوب به علم هذه الأمور وغلبة الظن لبعضها ، وقد يصيب الناظر فيها وقد يخطئ وكلاهما نظر منه ، وقد ينظر في شبهة وفي دليل وقد يصل بنظره إلى العلم تارة إذا سلك فيه المسلك الصحيح ورتبه على واجبه ومقتضاه ، وقد لا يصل إليه إذا قصر وغلط وخلط فيه أو نظر فيما هو شبهة وليس بدليل ، وللنظر آلة وغرض فالآلة هو المطلوب من أجل غيره والغرض هو المطلوب من أجله في نفسه ، فالغرض كمعرفة الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . انتهى .

والحاصل أن أسباب العلم ثلاثة : الحواس السليمة والخبر الصادق والعقل ، ووجهة الحصر أن السبب إن كان من خارج فالخبر الصادق ، وإلا فإن كان آلة غير المدرك فالحواس وإلا فالعقل - وإن كان المؤثر في العلوم كلها في الحقيقة هو الله تعالى ، لأنها بخلقه وإيجاده ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية