لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الثالث )

الرأي مصدر رأى رأيا مهموز ، والجمع آراء ، وهو التفكر في مبادئ الأمور ونظر عواقبها وعلم ما تئول إليه من الخطأ والصواب ، وأصحاب الرأي عند الفقهاء هم أهل القياس والتأويل ، كأصحاب الإمام أبي حنيفة ، وأبي الحسن الأشعري . وأصحاب الرأي ضد أصحاب الظاهر من داود وابن حزم ومن نحا نحوهم . وأصحاب التأويل ضد أصحابنا من أتباع المأثور ، والمرور كما جاء مع التفويض ، واعتقاد التنزيه بأن الله ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير .

وكان سبب انتشار البدع وظهورها ، وزيادتها ونشورها ، المأمون بن هارون الرشيد ، واسمه عبد الله ، وكنيته أبو العباس ، سابع خلفاء بني العباس ، وأمه ( أمة ) ، اسمها مراجل ، ولي الخلافة سنة مائة وسبعين ، وكان من رجال بني العباس - حزما وعزما ، وحلما وعلما ، ورأيا ودهاء ، وشجاعة وبراعة ، وفصاحة وسماحة ، إلا أنه كان رافضيا معتزليا قدريا ، فهو خبيث الاعتقاد ، كبير الفساد والعناد .

وفي سنة مائتين وإحدى عشر أمر أن ينادى : برئت الذمة ممن ذكر معاوية [ ص: 9 ] ( رضي الله عنه ) بخير ، فإن أفضل الخلفاء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه . وفي سنة مائتين واثنتي عشرة ، أظهر المأمون القول بخلق القرآن مضافا إلى تفضيل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على الشيخين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما . فاشمأزت منه النفوس ، ودعا الناس لرأيه المعكوس ، وكادت الفتن أن تقوم على ساقها . فكف عن ذلك إلى سنة ثمان عشرة ، فامتحن الناس بالقول بخلق القرآن ، فأجاب من أجاب طوعا وكرها ، وامتنع سيدنا الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - ومن امتنع معه من أئمة الحديث ، وطلب الإمام أحمد ، فهلك المأمون ولم يره الإمام أحمد ، ولله الحمد . وكان هلاك المأمون في شهر رجب سنة ثمان عشرة بعد المائتين .

قال العلماء : إن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى - أظنه صاحب جزيرة قبرس - طلب منه خزانة كتب اليونان ، وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد ، فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك ، فكلهم أشاروا بعدم تجهيزها إليه إلا مطران واحد ، فإنه قال : جهزها إليهم ، فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها ، وأوقعت بين علمائها .

قال الصلاح الصفدي : حدثني من أثق به أن شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - كان يقول : ما أظن أن الله يغفل عن المأمون ، ولا بد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها . قال الصلاح الصفدي : لم يبتكر المأمون النقل والتعريب ، بل فعل ذلك قبله كثير ، فإن يحيى بن خالد البرمكي عرب من كتب الفرس كليلة ودمنة ، وعرب لأجله كتاب المجسطي من كتب اليونان . والمشهور أن أول من عرب كتب اليونان خالد بن يزيد بن معاوية ، لما ولع بكتب الكيمياء .

ثم قال الصفدي : والخلاف ما زال في هذه الأمة منذ توفي - صلى الله عليه وسلم - حتى في موته ودفنه وأمر الخلافة بعده ، وأمر ميراثه ، وأمر قتال مانعي الزكاة ، إلى غير ذلك ، بل في نفس مرضه - صلى الله عليه وسلم - لما [ ص: 10 ] قال : " ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي . على ما هو مذكور في مواطنه ، وقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة " . وهو - صلى الله عليه وسلم - الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ، قد أخبر أن هذه الأمة ستفترق ، ومتى افترقت خالف بعضها بعضا ، ومتى خالفت تمسكت بشبه وحجج ، وناظر كل فرقة من تخالفها ، فانفتح باب الجدل ، واحتاج كل أحد إلى ترجيح مذهبه وقوله بحجة عقلية أو نقلية أو مركبة منهما ، فهذا الأمر كان مأمونا قبل المأمون ، نعم زاد الشر والضرر ، وقويت به حجج المعتزلة وغيرهم ، وأخذ أصحاب الأهواء ومخالفو السنة مقدمات عقلية من الفلاسفة ، فأدخلوها في مباحثهم ، وفرجوا بها مضايق جدالهم ، وبنوا عليها قواعد بدعهم ، فاتسع الخرق على الراقع ، وكاد منار الحق الواحد يشتبه بالثلاث الأثافي والرسوم البلاقع ، على أن السنة الشريفة مرفوعة المنار ، مأمونة السرار ، خافقة الأعلام ، راسخة الأحلام ، باهرة السنا ، ساطعة الجنى .


ويزيدها مر الليالي جدة وتقادم الأيام حسن شباب

وأهل السنة قد فتح لهم السلف الصالح مغلق أبوابها ، وذللوا بالشواهد الصادقة الصادعة ما جمح من صعابها ، وأطلقوا نيرها الأعظم ، فطمس من البدع تألق شهابها ، وأجنوا من اتبع هديهم ثمر اليقين متحد النوع وإن كان متشابها ، وجاسوا خلال الحق فميزوه ، وأهل مكة أخبر بشعابها .


ومن قال إن الشهب أكبرها السها     بغير دليل كذبته الدلائل

وما ذكره الصلاح الصفدي مما يشم منه رائحة العذر للمأمون عما أدخله على الأمة فيه حق وباطل ، فأصل الخلاف كان موجودا إلا أنه في أمور يسهل بعضها بخلاف ما فشا بفتنة المأمون . قال الإمام الحافظ الذهبي في كتابه العرش : لما ولي المأمون وكان متكلما عربت له كتب الأوائل ، فدعا [ ص: 11 ] الناس إلى القول بخلق القرآن ، وتهددهم وخوفهم ، فأجابه خلق كثير رغبة ورهبة ، وامتنع من إجابته الإمام أحمد بن حنبل ، وأبو مسهر عالم دمشق ، ونعيم بن حماد عالم مصر ، والبويطي فقيه مصر ، وعفان محدث العراق ، وطائفة سواهم ، فسجنهم ثم لم ينشب أن مات بطرسوس ودفن ثم استخلف بعده أخوه المعتصم ، فامتحن الناس ونهض بأعباء المحنة قاضيه أحمد بن أبي دؤاد ، وضربوا الإمام أحمد - رضي الله عنه - ضربا مبرحا ، فلم يجبهم ، وناظروه وجرت أمور صعبة . انتهى .

وأما خالد بن يزيد ، فعربت له كتب الطب والنجوم ، وقيل : الذي عربت له كتب الطب والنجوم المنصور ، وأما خالد فإنما ولعه في صنعة الكيمياء ، وله في ذلك رسائل ، وكان قد أخذ تلك الصناعة عن رجل من الرهبان يقال لهمرياس الرومي . وأما المنصور فأول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية بالعربية ، مثل : كليلة ودمنة وأقليدس ، كما في تاريخ الخلفاء للحافظ جلال الدين السيوطي ، وقال : وهو أول خليفة قرب المنجمين ، وعمل بأحكام النجوم . وأما المأمون فهو أول من أدخل علم المنطق وسائر العلوم اليونانية في الملة الإسلامية ، وأحضرها من جزيرة قبرص ، وترجمت له كتب كثيرة كما في أوائل السيوطي . انتهى .

وبسبب ذلك حدثت الفتن بين المسلمين ، والبغي على أئمة الدين ، وظهر اختلاف الآراء ، والميل إلى البدع والأهواء ، وكثرت الوقائع والاختلافات ، والرجوع إلى العلماء في المهمات ، فاشتغلوا بالنظر والاستدلال ، والاجتهاد والاستنباط وتمهيد القواعد والأصول ، وترتيب الأبواب والفصول ، وتكثير المسائل بأدلتها ، وإيراد الشبه بأجوبتها ، وتعيين الأوضاع والاصطلاحات ، وتبيين المذاهب والاختلافات ، فسموا ما يفيد معرفة الأحكام العملية عن أدلتها التفصيلية بالفقه ، ومعرفة أحوال الأدلة إجمالا في إفادتها الأحكام بأصول الفقه ، ومعرفة العقائد عن أدلتها بالكلام المشتق من الكلم ، وهو الجرح ومعظم خلافياته مع الفرق الإسلامية خصوصا المعتزلة ; لأنهم أول فرقة أسسوا قواعد الخلاف لما ورد به ظاهر السنة ، وجرى عليه جماعة الصحابة [ ص: 12 ] - رضي الله عنهم - في باب العقائد .

فأول من صنف في علم الكلام والجدال والخصام مع أهل السنة والجماعة أبو حذيفة واصل بن عطاء ، وهو رئيس المعتزلة وأول من سمي معتزليا ، اعتزل مجلس الحسن البصري - رحمه الله - فسمي بذلك . كان واصل بن عطاء هذا أحد البلغاء المتكلمين في علم الكلام وغيره ، وكان يلثغ بالراء فيجعلها غينا ، وكان أحد الأعاجيب ; لأن لثغته كانت قبيحة جدا ، فكان يخلص كلامه من الراء ، ولا يفطن لذلك لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه .

وذكر ابن خلكان كغيره من أهل التاريخ وأخبار الناس أن واصل بن عطاء كان يجلس إلى الحسن البصري - رحمه الله - فلما ظهر الاختلاف ، فقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبيرة ، وقالت الجماعة بأنهم مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر ، فخرج واصل بن عطاء من الفريقين ، وقال : إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر منزلة بين منزلتين ، فطرده الحسن عن مجلسه ، فاعتزل عنه وجلس إليه عمرو بن عبيد ، فقيل لهما ولأتباعهما معتزلون . فهذا سبب تسميتهم بالمعتزلة .

ولواصل من التصانيف كتاب المرجئة ، وكتاب التوبة ، وكتاب المنزلة بين المنزلتين ، وكتاب خطبته التي أخرج منها الراء ، وكتاب معاني القرآن ، وكتاب الخطب في العدل والتوحيد ، وكتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد ، وكتاب السبيل إلى معرفة الحق ، وغير ذلك . وكانت ولادته سنة ثمانين من الهجرة بمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومائة ، وهو من موالي بني منبه ( ؟ ) ، وقيل من موالي بني مخزوم .

وأما عمرو بن عبيد بن باب فمن موالي بني عقيل آل غزادة بن يربوع بن مالك ، كان جده باب من سبي كابل من جبال السند ، وكان عمرو شيخ المعتزلة في وقته ، وله كتاب تفسير عن الحسن البصري ، وله كتاب الرد على القدرية ، وله كلام كثير في العدل والتوحيد على اعتقاد المعتزلة . وولد سنة ثمانين من الهجرة ، ومات سنة أربع وأربعين ومائة ، وهو [ ص: 13 ] راجع إلى ( ؟ ) مكة بموضع يقال له مران ، على ليلتين من مكة من جهة البصرة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية