لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
تنبيهات

( الأول ) : لا خلاف بين العقلاء أن الله - سبحانه وتعالى - متصف بجميع صفات الكمال ، منزه عن جميع صفات النقص ، لكنهم مع اتفاقهم على ذلك اختلفوا في الكمال والنقص ، فتراهم يثبت أحدهم لله ما يظنه كمالا ، وينفي [ ص: 105 ] الآخر عين ما أثبته هذا لظنه نقصا ، وسبب ذلك أنهم سلطوا الأفكار على ما لا سبيل إليه من طريق الفكر ، فإن الله - تعالى - خلق العقول ، وأعطاها قوة الفكر ، وجعل لها حدا تقف عنده من حيث ما هي مفكرة ، لا من حيث ما هي قابلة للوهب الإلهي ، فإذا استعملت العقول أفكارها فيما هو في طورها وحدها ووفت النظر حقه ، أصابت بإذن الله - تعالى ، وإذا سلطت الأفكار على ما هو خارج عن طورها ووراء حدها الذي حده الله لها ، ركبت متن عمياء ، وخبطت خبط عشواء ، فلم يثبت لها قدم ، ولم ترتكن على أمر تطمئن إليه ، فإن معرفة الله التي وراء طورها مما لا تستقل العقول بإدراكها من طريق الفكر وترتيب المقدمات ، وإنما تدرك ذلك بنور النبوة وولاية المتابعة ، فهو اختصاص إلهي يختص به الأنبياء وأهل وراثتهم مع حسن المتابعة ، وتصفية القلب من وضر البدع والفكر من نزغات الفلسفة ، والله يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .

ومما يوضح ذلك أن العقول لو كانت مستقلة بمعرفة الحق وأحكامه ، لكانت الحجة قائمة على الناس قبل بعث الرسل وإنزال الكتب ، واللازم باطل بالنص ، قال - تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ، وقال - تعالى : ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) ، فكذا الملزوم ، فلما بعث الله الرسل ، وأنزل الكتب ، وجبت لله على الخلق الحجة البالغة ، وانقطعت علقة الاعتذار ، ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) ، ولما عجزت العقول من طريق الفكر عن معرفة الحق التي هي وراء طورها ومنحها القبول ، وقد أنزل الكتاب ، وأنزل فيه ما حارت في إدراكه العقول من الآيات المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله ، أمرنا الشارع بالإيمان بها ، ونهانا عن التفكير في ذات الله رحمة منه بنا ولطفا لعجزنا عن إدراكه ، فإن تسليط الفكر على ما هو خارج عن حده تعب بلا فائدة ، ونصب من غير عائدة ، وطمع في غير مطمع ، وكد من غير منجع ، وقد أمرنا بالإيمان بالمتشابه .

[ ص: 106 ] وفي الحديث " تعلموا القرآن والتمسوا غرائبه - يعني فرائضه أي حدوده - وهي حلال وحرام ، ومحكم ومتشابه وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، واعتبروا بأمثاله " . رواه الديلمي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه ، وأخرجه الحاكم وصححه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ولفظه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف : زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا " . وروى نحوه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة . وروى ابن جرير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تفسره العرب ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب " . ثم رواه من وجه آخر ، عن ابن عباس موقوفا بنحوه . وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : نؤمن بالمحكم ، وندين به ، ونؤمن بالمتشابه ، ولا ندين به ، وهو من عند الله كله . وقالت عائشة - رضي الله عنها : كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه . ولما قدم صبيغ المدينة المنورة وجعل يسأل عن متشابه القرآن ، أرسل إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقد أعد له عراجين النخل ، فقال : من أنت ؟ قال : عبد الله صبيغ . فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين ، فضربه حتى أدمى رأسه ، وفي رواية : فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ، ثم تركه حتى برئ ، ثم أعاد عليه الضرب ، ثم تركه حتى برئ ، فدعا به ليعيده عليه ، فقال : إن كنت تريد قتلي ، فاقتلني قتلا جميلا ، أو ردني إلى أرضي . فأذن له إلى أرضه ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين .

وفي فروع ابن مفلح [ ص: 107 ] من علمائنا أن عمر - رضي الله عنه - أمر بهجر صبيغ لسؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات انتهى .

وهذا من سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لسد باب الذريعة . والآية الشريفة دلت على ذم متبعي المتشابه ، ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة ، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه ، كما مدح الله - تعالى - المؤمنين بالغيب ، فعلى العاقل الناصح لدينه ونفسه أن يسلك مسلك السلف الصالح ، وأن يرقى على سلم التسليم ، فإنه من أنجح المصالح ، وأن يؤمن بالمتشابهات من آيات الأسماء والصفات ، كما فعل الصحابة والتابعون ، ويمتثل أمر نبيه خاتم النبيين وإمام المرسلين في قوله : وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا : آمنا به كل من عند ربنا . فلقد بالغ في النصيحة بأدلة صحيحة ، وكلمات فصيحة ، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا عن قومه ، ورسولا عن أمته ، ورضي الله - تعالى - عن آله وصحبه ، والتابعين لهم بإحسان ، وذوي الحق وحزبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية