لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 174 ] ( الثانية ) : ما قد أشرت إليه في قولي "

وليس في طوق الورى من أصله

إلخ . . . " أي ليس في وسع البشر ، ولا سائر الخلق ، ولا في أصل خلقتهم وجبلتهم القدرة على أن يأتوا بمثل أقصر سورة من القرآن العظيم ، والذكر الحكيم ، فإنه معجزة في نفسه فليس في وسع الخلق ولا قدرتهم على مضاهاته .

وقال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه الوفاء : وكان المرتضى العلوي يقول بالصرفة - يعني أن الله تعالى صرف العرب على الإتيان بمثله لا أنهم عجزوا .

قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل : الصرف على الإتيان بمثله دال على أن لهم القدرة حاصلة ، قال " وإن كان في الصرف نوع إعجاز إلا أن كون القرآن في نفسه ممتنعا عن الإتيان بمثله لمعنى يعود عليه ، آكد في الدلالة ، وأعظم لفضيلة القرآن .

قال : " وما قول من قال بالصرفة إلا بمثابة من قال بأن عيون الناظرين إلى عصا موسى - عليه السلام - خيل لهم أنها حية وثعبان ، لا أنها في نفسها انقلبت . قال : فالتحدي للمصرف عن الشيء لا يحسن كما لا يتحدى العجم بالعربية " قال الحافظ بن الجوزي " : وأنا أقول إنما يصرفون عن الشيء بتغير طباعهم عند نزولهم أن يقدروا على مثله ، فهل وجد لأحد منهم قبل الصرفة منذ وجدت العرب كلاما يقاربه مع اعتمادهم على الفصاحة ؟ فالقول بالصرفة ليس بشيء .

وقال شيخ الإسلام في ( الجواب الصحيح ) : " كل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن - حجة على إعجازه ، ولا تناقص في ذلك ، بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له ، ثم قال " ومن أضعف الأقوال من يقول من أهل الكلام إنه معجز بصرف الدواعي مع قيام الموجب لها ، أو بسلب القدرة الجازمة ، وهو أن الله تعالى صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضى التام ، أو سلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبا عاما مثل قوله لزكريا آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ، فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل ، وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله ، فامتناعهم جميعهم عن هذه المعارضة - مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة - من أبلغ الآيات الخارقة للعادة بمنزلة من يقول إني آخذ جميع أموال أهل هذه البلد العظيم وأضربهم جميعهم وأجوعهم ، وهم قادرون على أن يشتكوا إلى الله وإلى ولي الأمر ، وليس فيهم مع ذلك من [ ص: 175 ] يشتكي فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة ، ولو قدر أن أحدا صنف كتابا يقدر أمثاله على تصنيف مثله ، أو قال شعرا يقدر أمثاله على أن يقولوا مثله ، وتحداهم كلهم ، فقال : عارضوني ، وإن لم تعارضوني ، فأنتم كفار ، مأواكم النار ، ودماؤكم حلال - امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد ، فإذا لم يعارضوه كان هذا من العجائب الخارقة للعادة ، والذي جاء بالقرآن - صلى الله عليه وسلم - قال للخلق كلهم أنا رسول الله إليكم جميعا ، ومن آمن بي دخل الجنة ، ومن لم يؤمن بي دخل النار ، وقد أبيح لي قتل رجالهم ، وسبي ذراريهم ، وغنيمة أموالهم ، ووجب عليهم كلهم طاعتي ، ومن لم يعطني كان من أشقى الخلق ، ومن آياتي هذا القرآن فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله ، وأنا أخبركم أن أحدا لا يأتي بمثله .

فإنه لا يخلو إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة أو عاجزين فإن كانوا قادرين ولم يعارضوه ، بل صرف الله دواعي قلوبهم ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه ، فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام ، ولا على الأكل والشرب ، فإن المنع من المعتاد ، كإحداث غير المعتاد ، فهذا من أبلغ الخوارق ، وإن كانوا عاجزين ثبت أنه خارق للعادة فثبت كونه خارقا للعادة على تقدير النقيضين النفي والإثبات ، فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر . "

قال شيخ الإسلام - قدس الله سره - : فهذا غايته غاية التنزيل ، قال : وإلا فالصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته لا يقدرون على ذلك .

قال : بل ولا يقدر محمد نفسه - صلى الله عليه وسلم - من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن ، بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبر ، كما أخبر به تعالى في قوله قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

قلت : وفي شفاء أبي الفضل القاضي عياض بعض ميل للقول بالصرفة ؛ فإنه قال : وذهب الشيخ أبو الحسن - يعني الأشعري - إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ويقدرهم الله عليه ، ولكنه لم يكن هذا ، ولا يكون فمنعهم الله هذا ، وعجزهم عنه . قال : وقال به جماعة من أصحابه .

قال : وعلى [ ص: 176 ] الطريقين فعجز العرب عنه ، وإقامة الحجة عليهم بما يصح أن يكون في مقدور البشر ، وتحداهم بأن يأتوا بمثله قاطع .

قال : وهو أبلغ في التعجب ، وأحرى بالتقريع ، والاحتجاج بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر لازم ، وهو أبهر آية ، وأقمع دلالة ، وعلى كل حال فما أتوا في ذلك بمقال ، بل صبروا على الجلاء والقتل ، وتجرعوا كاسات الصغار والذل ، وكانوا من شموخ الأنف ، وإباء الضيم بحيث لا يؤثرون ذلك اختيارا ، ولا يرضونه إلا اضطرارا ، وإلا فالمعارضة لو كانت من قدرهم لأسرعوا بالحجج ، وقطع العذر ، وإفحام الخصم لديهم ، هذا وهم ممن لهم قدرة على الكلام ، وقدوة بالمعرفة به لجميع الأنام ، وما منهم إلا من جهد جهده ، واستنفد ما عنده في إخفاء ظهوره ، وإطفاء نوره ، فما حلوا في ذلك بحبة من بنات شفاهم ولا أتوا بنقطة من معين مياههم مع طول الأمد ، وكثرة العدد ، وتظاهر الوالد وما ولد ، بل أبلسوا فما نبسوا ، ومنعوا فانقطعوا ، انتهى كلامه

وذكر الإمام الحافظ ابن الجوزي في كتابه " الوفاء " عن الإمام ابن عقيل أنه ، قال : حكى لي أبو محمد بن مسلم النحوي ، قال كنا نتذاكر إعجاز القرآن ، وكان ثم شيخ كثير الفضل ، فقال : ما فيه ما يعجز الفضلاء عنه ، ثم ارتقى إلى غرفة ، ومعه صحيفة ومحبرة ، ووعد أنه يبادئهم بعد ثلاثة أيام بما يعمله مما يضاهي القرآن فلما انقضت الأيام الثلاثة صعد واحد فوجده مستندا يابسا ، وقد جفت يده على القلم .

قلت : وبمثل هذه يحتج القائلون بالصرفة ، وليس بحجة لعدم حصر الهلاك فيها ، بل لما عجز أهلكه الله كمدا ، ولتجرئه على ما ليس في وسعه وقدرته ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية