فلنذكر الآن البيان عن اعتقاد الوالد السعيد ومن قبله من السلف الحميد في أخبار الصفات .
فاعلم زادنا الله وإياك علما ينفعنا الله به وجعلنا ممن آثر الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة على آراء المتكلمين وأهواء المتكلفين .
أن
الذي درج عليه صالحو السلف وانتهجه بعدهم خيار الخلف : هو التمسك [ ص: 208 ] بكتاب الله عز وجل واتباع نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم ما روي عن الصحابة رضوان الله عليهم ثم عن التابعين والخالفين لهم من علماء المسلمين .
والإيمان والتصديق بما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله مع ترك البحث والتنفير والتسليم لذلك من غير تعطيل ولا تشبيه ولا تفسير ولا تأويل وهي الفرقة الناجية والجماعة العادلة والطائفة المنصورة إلى يوم القيامة فهم أصحاب الحديث والأثر والوالد السعيد تابعهم هم خلفاء الرسول وورثة علمه وسفرته بينه وبين أمته بهم يلحق التالي وإليهم يرجع العالي وهم الذين نبذهم أهل البدع والضلال وقائلو الزور والمحال : أنهم مشبهة جهال ونسبوهم إلى الحشو والطغام وأساءوا فيهم الكلام .
فاعتقد الوالد السعيد وسلفه قدس الله أرواحهم وجعل ذكرنا لهم بركة تعود علينا في جميع ما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - : أن جميع ذلك صفات الله عز وجل تمر كما جاءت من غير زيادة ولا نقصان وأقروا بالعجز عن إدراك معرفة حقيقة هذا الشأن .
اعتقد الوالد السعيد ومن قبله ممن سبقه من الأئمة : أن إثبات صفات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد لها حقيقة في علمه لم يطلع الباري سبحانه على كنه معرفتها أحدا من إنس ولا جان .
واعتقدوا : أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات ويحتذى حذوه ومثاله وكما جاء .
وقد أجمع أهل القبلة : أن إثبات الباري سبحانه : إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية هكذا اعتقد الوالد السعيد ومن قبله ممن سلفه من الأئمة : أن إثبات الصفات للباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية وأنها صفات لا تشبه صفات البرية ولا تدرك حقيقة علمها بالفكر والروية .
والأصل الذي اعتمدوه في هذا الباب اتباع قوله تعالى :
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب وقال تعالى :
ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما [ ص: 209 ]
فاعتقدوا أن الباري سبحانه وتعالى : فرد الذات متعدد الصفات لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته ولا نظير ولا ثاني وسمعوا قوله عز وجل :
الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب فآمنوا بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليما للقدرة وتصديقا للرسل وإيمانا بالغيب .
واعتقدوا : أن صفات الباري سبحانه معلومة من حيث أعلم هو غيب من حيث انفرد واستأثر كما أن الباري سبحانه معلوم من حيث هو مجهول ما هو .
واعتقدوا : أن الباري سبحانه استأثر بعلم حقائق صفاته ومعانيها عن العالمين وفارق بها سائر الموصوفين فهم بها مؤمنون وبحقائقها موقنون وبمعرفة كيفيتها جاهلون لا يجوز عندهم ردها كرد
الجهمية ولا حملها على التشبيه كما حملته
المشبهة الذين أثبتوا الكيفية ولا تأولوها على اللغات والمجازات كما تأولتها
الأشعرية .
فالحنبلية لا يقولون في أخبار الصفات بتعطيل المعطلين ولا بتشبيه المشبهين ولا تأويل المتأولين مذهبهم : حق بين باطلين وهدى بين ضلالتين : إثبات الأسماء والصفات مع نفي التشبيه والأدوات إذ لا مثل للخالق سبحانه مشبه ولا نظير له فيجنس منه فنقول كما سمعنا ونشهد بما علمنا من غير تشبيه ولا تجنيس على أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وفي رد أخبار الصفات وتكذيب النقلة : إبطال شرائع الدين من قبل أن الناقلين إلينا علم الصلاة والزكاة والحج وسائر أحكام الشريعة : هم ناقلوا هذه الأخبار والعدل مقبول القول فيما قاله ولو تطرق إليهم والعياذ بالله التخرص
[ ص: 210 ] بشيء منها : لأدى ذلك إلى إبطال جميع ما نقلوه وقد حفظ الله سبحانه الشرع عن مثل هذا .
وقد أجمع علماء أهل الحديث
والأشعرية منهم على قبول هذه الأحاديث فمنهم من أقرها على ما جاءت وهم أصحاب الحديث ومنهم من تأولها وهم
الأشعرية وتأويلهم إياها قبول منهم لها إذ لو كانت عندهم باطلة لاطرحوها كما اطرحوا سائر الأخبار الباطلة .
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=680453 " أمتي لا تجتمع على خطأ ولا ضلالة " .
وما ذكرناه من
الإيمان بأخبار الصفات من غير تعطيل ولا تشبيه ولا تفسير ولا تأويل هو قول السلف بدءا وعودا وهو الذي ذكره أمير المؤمنين القادر رضوان الله عليه في الرسالة القادرية قال فيها : " وما وصف الله سبحانه به نفسه أو وصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فهو صفات الله عز وجل على حقيقته لا على سبيل المجاز " .
وعلى هذا الاعتقاد : جمع أمير المؤمنين
القائم بأمر الله رضوان الله عليه من حضره مع الوالد السعيد من علماء الوقت وزاهدهم :
أبو الحسن القزويني سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وأخذ خطوطهم باعتقاده .
وقد قال الوالد السعيد رضي الله عنه في أخبار الصفات : المذهب في ذلك : قبول هذه الأحاديث على ما جاءت به من غير عدول عنه إلى تأويل يخالف ظاهرها مع الاعتقاد بأن الله سبحانه بخلاف كل شيء سواه وكل ما يقع في الخواطر من حد أو تشبيه أو تكييف : فالله سبحانه وتعالى عن ذلك والله ليس كمثله شيء ولا يوصف بصفات المخلوقين الدالة على حدثهم ولا يجوز عليه ما يجوز عليهم من التغير من حال إلى حال ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض وأنه لم يزل ولا يزال وأنه الذي لا يتصور
[ ص: 211 ] في الأوهام وصفاته لا تشبه صفات المخلوقين ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
وأما كتابه قدس الله روحه في إبطال التأويلات لأخبار الصفات : فمبني على هذه المقدمات وأن إطلاق ما ورد به السمع من الصفات : لا يقتضي تشبيه الباري سبحانه بالمخلوقات .
وذكر رحمة الله عليه كلاما معناه : أن التشبيه إنما يلزم الحنبلية أن لو وجد منهم أحد أمرين : إما أن يكونوا هم الذين ابتدأوا الصفة لله عز وجل واخترعوها أو يكونوا قد صرحوا باعتقاد التشبيه في الأحاديث التي هم ناقلوها .
فإما أن يكون صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - هو المبتدئ بهذه الأحاديث وقوله - صلى الله عليه وسلم - حجة يسقط بها ما يعارضها وهم تبع له ثم يكون الحنبلية قد صرحوا بأنهم يعتقدون إثبات الصفات ونفي التشبيه فكيف يجوز أن يضاف إليهم ما يعتقدون نفيه ؟ .
وعلى أنه قد ثبت أن الحنبلية إنما يعتمدون في أصول الدين على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونحن نجد في كتاب الله وسنة رسوله ذكر الصفات ولا نجد فيهما ذكر التشبيه فكيف يجوز أن يضاف إليهم ما يعتقدون نفيه ؟ .
ومما يدل على أن تسليم الحنبلية لأخبار الصفات من غير تأويل ولا حمل على ما يقتضيه الشاهد وأنه لا يلزمهم في ذلك التشبيه : إجماع الطوائف من بين موافق للسنة ومخالف أن الباري سبحانه ذات وشيء وموجود ثم لم يلزمنا وإياهم إثبات جسم ولا جوهر ولا عرض وإن كانت الذات في الشاهد لا تنفك عن هذه السمات وهكذا لا يلزم الحنبلية ما يقتضيه العرف في الشاهد في أخبار الصفات .
يبين صحة هذا : أن
الباري سبحانه موصوف بأنه : حي عالم قادر مريد [ ص: 212 ] والخلق موصوفون بهذه الصفات ولم يدل الاتفاق في هذه التسمية على الاتفاق في حقائقها ومعانيها هكذا القول في أخبار الصفات ولا يلزم عند تسليمها من غير تأويل إثبات ما يقتضيه الحد والشاهد في معانيها .
وبهذا ونظيره استدل الوالد السعيد رحمة الله عليه في كتابه " إبطال التأويلات لأخبار الصفات " .
فأما الرد على
المجسمة لله : فيرده الوالد السعيد بكتاب وذكره أيضا في أثناء كتبه فقال : لا يجوز أن يسمى الله جسما .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد : لا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه .
قال الوالد السعيد : فمن
اعتقد أن الله سبحانه جسم من الأجسام وأعطاه حقيقة الجسم من التأليف والانتقال : فهو كافر لأنه غير عارف بالله عز وجل لأن الله سبحانه يستحيل وصفه بهذه الصفات وإذا لم يعرف الله سبحانه : وجب أن يكون كافرا .
وهذا الكتاب عدة أوراق .