فلنذكر الآن شذرة من آدابه وورعه .
سمعت
أبا الحسن النهري قال : كنت في بعض الأيام أمشي مع القاضي والدك فالتفت فقال لي : لا تلتفت إذا مشيت فإنه ينسب فاعل ذلك إلى الحمق .
قال
النهري : وقال لي والدك يوما آخر وأنا أمشي معه : إذا مشيت مع من تعظمه أين تمشي منه ؟ فقلت : لا أدري فقال : عن يمينه تقيمه مقام الإمام في الصلاة وتخلي له الجانب الأيسر إذا أراد أن يستنثر أو يزيل أذى جعله في الجانب الأيسر .
وقال
النهري أيضا : لما قدم الوزير
ابن دراست عبرت أبصره ففاتني درس ذلك اليوم فلما حضرت قلت : يا سيدنا تتفضل وتعيد لي الدرس ؟ فقال : أين كنت في أمسنا ؟ فقلت : مضيت أبصرت ابن دارست فأنكر علي ذلك إنكارا شديدا وقال : ويحك تمضي وتنظر إلى الظلمة ؟ وعنفني على ذلك وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
" النظر إلى الظالمين يطفئ نور الإيمان " أو كما قال .
قال : وكان ينهانا دائما عن مخالطة أبناء الدنيا والنظر إليهم والاجتماع بهم ويأمرنا بالاشتغال بالعلم ومخالطة الصالحين .
وسمعت خالي
عبد الله يقول : حضرت مع القاضي الإمام والدك في دار رئيس الرؤساء بعد مجيء طغرلبك وقد أنفذ إليه غير مرة ليحضر فلما حضر قربه رئيس الرؤساء وزاد في إكرامه وإعظامه وأجلسه حتى مس بعضه بجنب المخدة وقال له : ما سمعه أهل المجلس لم يزل بيت المسلمة وبيت الفراء ممتزجين مختلطين فما هذا الانقطاع ؟ فقال له القاضي الإمام : يروى عن شيخنا
nindex.php?page=showalam&ids=12352إبراهيم الحربي : أنه
[ ص: 223 ] استزاره
المعتضد وقربه وأجازه فرد جائزته فقال له : اكتم مجلسنا ولا تخبر بما فعلنا بك وبما قابلتنا به فقال له
الحربي : لي إخوان لو علموا باجتماعي معك هجروني فقال له رئيس الرؤساء كلاما أسره إليه ومد كمه إليه فتأخر القاضي الإمام عنه وسمعته يقول : أنا في كفاية ودعة فقلت له : يا سيدنا ما قال لك ؟ قال : قال لي : معي شيء من بقية ذلك الإرث المستطاب وليس مما قد تلوثنا به من الدنيا فأحب أن تأخذه وتصرفه في بعض حوائجك فقلت له : أنا في كفاية ودعة أو كما قال .
وسمعت بعض أصحابنا يحكى أنه لما حصب الإمام
القائم بالله - رضوان الله عليه - وعوفي : حضر الشيخ
أبو منصور بن يوسف عند الوالد السعيد وقال له : لو سهل عليك أن تمضي إلى باب القربة لتهنئ الإمام بالعافية ؟ فمضى إلى هناك فخرج إليه
محمد الوكيل ومعه جائزة سنية وعرفه شكر الإمام لسعيه وتبركه بأدعيته ويسأله قبول ذلك قال : فوالله ما مسها ولا قبلها فروجع في ذلك فأبى أو كما قال .
وسمعت جماعة من أهل يحكون : أن في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة لما وقع النهب
بغداد بالجانب الغربي منها وانتقل الوالد السعيد من
درب الدبرج إلى
باب البصرة وكان في داره
بدرب الدبرج خبز يابس فنقله معه وترك نقل رحله لتعذر من يحمله واختار حمل الخبز اليابس على الرحل النفيس وكان يقتات منه ويبله بالماء وقال : هذه الأطعمة اليوم نهوب وغصوب ولا أطعم من ذلك شيئا فبقي ما شاء الله يتقوت من ذلك الخبز اليابس المبلول ويتقلل من طعمه إلى أن نفد ولحق الوالد السعيد من ذلك الخبز اليابس المبلول مرض وكان قد مرض .
وكان الوالد السعيد في كل ليلة جمعة يختم الختمة في المسجد بعد صلاة العشاء الآخرة ويدعو ويؤمن الحاضرون على دعائه ما أخل بهذا سنين عديدة إلا لمرض أو لعذر مستفيض سوى ما كان يختمه في غير تلك الليلة .
[ ص: 224 ]
فهذا القدر الذي ذكرته إشارة إلى بعض مناقب الوالد السعيد .
ولقد أجمع الفقهاء والعلماء وأصحاب الحديث والقراء والأدباء والفصحاء وسائر الناس على اختلافهم على صحة رأيه ووفور عقله وحسن معتقده وجميل طريقته ولطف نفسه وعلو همته وورعه وتقشفه ونزاهته وعفته .
وكان ممن جمعت له القلوب فإنه روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=17036محمد بن واسع أنه قال :
" إذا أقبل العبد بقلبه إلى الله تعالى إليه أقبل إليه بقلوب المؤمنين " .