صفحة جزء
962 - أخبرنا أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن عمر بن قتادة ، ثنا الإمام أبو سهل محمد بن سليمان إملاء ، أنا محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو بكر الإمام ، ثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي ، عن أبيه ، عن أنس بن مالك ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أنه قال : " إذا تقرب مني عبدي شبرا تقربت منه ذراعا ، وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه بوعا وإذا تقرب مني بوعا أتيته أهرول " أو كما قال . قال الشيخ أبو سهل : " وفي هذا الحديث اختصار ، ولفظة تفرد بها هذا الراوي ، إذ سائر الرواة يقولون : " إذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا " ويقولون في تمام الحديث : " وإذا أتاني يمشي أتيته أهرول " . والباع والبوع مستقيمان في اللغة ، جاريتان على سبيل العربية ، والأصل في الحرف الواو فقلبت الواو ألفا للفتحة . ثم الجهمية وأصناف القدرية وأخياف المعتزلية المجترئة على رد أخبار الرسول بالمزيف من المعقول ، لما ردوا إلى حولهم وأحاط بهم الخذلان واستولى عليهم [ ص: 384 ] بخدائعه الشيطان ، ولم يعصمهم التوفيق ولا استنقذهم التحقيق ، قالوا : الهرولة لا تكون إلا من الجسم المنتقل ، والحيوان المهرول ، وهو ضرب من ضروب حركات الإنسان كالهرولة المعروفة في الحج ، وهكذا قالوا ، في قوله : " تقربت منه ذراعا " ، تشبيه إذ يقال ذلك في الأشخاص المتقاربة ، والأجسام المتدانية الحاملة للأعراض ، ذوات الانبساط والانقباض ، فأما القديم المتعالي عن صفة المخلوقين ، وعن نعوت المخترعين ، فلا يقال عليه ما ينثلم به التوحيد ولا يسلم عليه التمجيد . فأقول : إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم موافق لقضايا العقول إذ هو سيد الموحدين من الأولين والآخرين ، ولكن من نبذ الدين وراءه وحكم هواه وآراءه ، ضل عن سبيل المؤمنين ، وباء بسخط رب العالمين ، تقرب العبد من مولاه بطاعاته وإرادته وحركاته وسكناته سرا وعلنا ، كالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما تقرب العبد مني بمثل ما تقرب من أداء ما افترضته عليه ، فلا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أكون له سمعا وبصرا " . وهذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم من لطيف التمثيل عند ذوي التحصيل ، البعيد من التشبيه ، المكين من التوحيد ، وهو أن يستولي الحق على المتقرب إليه بالنوافل حتى لا يسمع شيئا إلا به ، ولا ينطق إلا عنه ، نشرا لآلائه ، وذكرا لنعمائه ، وإخبارا عن مننه المستغرقة للخلق ، فهذا معنى قوله : يسمع به وينطق ولا يقع نظره على منظور إليه إلا رآه بقلبه موحدا ، وبلطائف آثار حكمته ، ومواقع قدرته من ذلك المرئي المشاهد ، يشهده بعين التدبير وتحقيق التقدير ، وتصديق التصوير .

وفي كل شيء له شاهد يدل على أنه واحد

فتقرب العبد بالإحسان ، وتقرب الحق بالامتنان ، يريد أنه الذي أدناه ، وتقرب العبد إليه بالتوبة والإنابة ، وتقرب الباري إليه بالرحمة والمغفرة ، وتقرب العبد إليه بالسؤال ، وتقربه إليه بالنوال ، وتقرب العبد إليه بالسر وتقربه إليه بالبشر ، لا من حيث توهمته الفرقة المضلة للأغمار والمتغابية بالإعثار . [ ص: 385 ] وقد قيل في معناه : إذا تقرب العبد إلي بما به تعبدته ، تقربت إليه بما له عليه وعدته . وقيل في معناه : إنما هو كلام خرج على طريق القرب من القلوب دون الحواس ، مع السلامة من العيوب على حسب ما يعرفه المشاهدون ، ويجده العابدون من أخبار دنو من يدنو منه ، وقرب من يقرب إليه ، فقال على هذه السبيل وعلى مذهب التمثيل ولسان التعليم بما يقرب من التفهيم ، إن قرب الباري من خلقه بقربهم إليه بالخروج فيما أوجبه عليهم ، وهكذا القول في الهرولة ، إنما يخبر عن سرعة القبول وحقيقة الإقبال ودرجة الوصول ، والوصف الذي يرجع إلى المخلوق مصروف على ما هو به لائق ، وبكونه متحقق ، والوصف الذي يرجع إلى الله سبحانه وتعالى يصرفه لسان التوحيد ، وبيان التجريد ، إلى نعوته المتعالية ، وأسمائه الحسنى . ولولا الإملال أحذره وأخشاه ، لقلت في هذا ما يطول دركه ، ويصعب ملكه ، والذي أقول في هذا الخبر وأشباهه من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم المنقولة على الصحة والاستقامة بالرواة الأثبات العدول ، وجوب التسليم ، ولفظ التحكيم ، والانقياد بتحقيق الطاعة ، وقطع الريب عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة النجباء الذين اختارهم الله تعالى له وزراء وأصفياء ، وخلفاء ، وجعلهم السفراء بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم ، عن حق عداه أو عدوه ، وصدق تجاوزوه ، والناس ضربان : مقلدون وعلماء ، فالذين يقلدون أئمة الدين سبيلهم أن يرجعوا إليهم عند هذه الموارد ، والذين منحوا العلم ورزقوا الفهم هم الأنوار المستضاء بهم ، والأئمة المقتدى بهم ، ولا أعلمهم إلا الطائفة السنية ، والحمد لله رب العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية