صفحة جزء
92 - ذكر عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح رضي الله عنه

مهاجري أولي من مهاجرة الحبشة، كان من نساك المهاجرين، يقوم الليل، ويصوم النهار، امتحن في الله بمكة.

قال الزهري: اشتد البلاء على من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبائلهم، فكانت فتنة شديدة، وزلزال شديد، فمنهم من عصم الله، ومنهم من افتتن، فلما فعل ذلك بالمسلمين، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى أرض الحبشة، فخرجوا وأميرهم عثمان بن مظعون ، فلما بلغهم سجود الوليد بن المغيرة بمكة، وسمعوا أن المشركين آمنوا، أقبلوا إلى مكة فلم يستطيعوا أن يدخلوا مكة إلا بجوار، فأجار الوليد بن المغيرة ، عثمان بن مظعون ، فلما رأى عثمان ما لقي أصحابه من البلاء، وأنه لا يعرض [ ص: 548 ] له، استحب البلاء على العافية، فقال: أما من كان في ذمة الله وذمة رسوله فهو مبتلى خائف، وأما من كان في عهد الشيطان وأوليائه فهو معافى.

فأتى عثمان بن مظعون الوليد فقال: يا عم، قد أجرتني وأحسنت إلي وأنا أحب أن تخرجني إلى عشيرتك، فتتبرأ من ذمتي بين ظهرانيهم، فقال الوليد: لعل أحدا آذاك أو شتمك، قال: لا والله ما اعترض لي أحد، فلما أبى عثمان أخرجه الوليد إلى المسجد، وقريش فيه أحفل ما كانوا، ولبيد بن ربيعة ينشدهم، فقال: إن هذا غلبني وحملني على أن أتبرأ منه من جواره، وإني أشهدكم أني منه برئ إلا أن يشاء.

قال: صدق، أنا والله أكرهته على ذلك، وهو مني برئ، ثم جلسنا ولبيد ينشدهم فقال:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل



فقال عثمان: صدقت.

ثم قال:

وكل نعيم لا محالة زائل



فقال عثمان: كذبت، فأمسكت القوم ولم يدروا ما أراد بكلمته، ثم عاد الثانية، فقال عثمان: مثل كلمته الأولى، فلما ذكر أن كل نعيم لا محالة زائل، كذبه لأن نعيم الجنة لا يزول، فلطم رجل من قريش عين عثمان بن مظعون فاخضرت، فقال الوليد: كنت عن الذي لقيت عينك غنيا، فقال عثمان: بل كنت إلى الذي لقيت عيني فقيرا، ولي فيمن هو أحب إلي منكم أسوة، فقال له الوليد: إن شئت أجرتك ثانيا، فقال عثمان: لا أرب لي في جوارك [ ص: 549 ] .

وقال غير الزهري: فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدثت فيكم هذا؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل، فلطم عينه فخضرها، والوليد بن المغيرة قريب يرى، فقال: أما والله يا ابن أخي، إن كانت عينك عما أصابها لغنية، وكنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله، ثم قال:

فإن تك عيني في رضى الرب نالها     يدا ملحد في الدين ليس بمهتدي
فقد عوض الرحمن منها ثوابه     ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد
فإني وإن قلتم: غوي مضلل     سفيه على دين النبي محمد
أريد بذاك الله، والحق ديننا     على رغم من يبغي علينا ويعتدي

وفي رواية: فلما رأى عثمان ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد ، قال: والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأهل ديني يلقون من الأذى والبلاء ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي، فمشى إلى الوليد فرد إليه جواره [ ص: 550 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية