صفحة جزء
فصل قال أبو حازم: نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا أعظم من نعمته علي فيما أعطاني منها، إني رأيته تبارك وتعالى أعطاها قوما فهلكوا.

وقال: أفضل خصلة ترجى للمؤمن أن يكون أشد الناس خوفا على نفسه وأرجاه لكل مسلم.

وعن يحيى بن أبي كثير ، عن أبيه، قال: دخل سليمان بن عبد الملك المدينة حاجا، فقال: هل بها رجل أدرك عدة من الصحابة؟ قالوا: نعم أبو حازم ، فأرسل إليه، فلما أتاه قال: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال: وأي جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين؟ قال: وجوه الناس أتوني ولم تأتني.

قال: والله ما عرفتني قبل هذا ولا أنا رأيتك، فأي جفاء رأيت مني، فالتفت سليمان بن عبد الملك إلى الزهري ، فقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا، ثم قال: يا أبا حازم مالنا نكره الموت؟ فقال: عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون الخروج من البنيان إلى الخراب، قال: صدقت يا أبا حازم ، ليت شعري مالنا عند الله غدا؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله، قال: وأين أجده من كتاب الله؟ قال: قال الله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ ص: 798 ] .

قال سليمان: فأين رحمة الله قال أبو حازم: قريب من المحسنين .

قال سليمان: ليت شعري كيف العرض على الله غدا؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم به على مولاه، فبكى سليمان حتى علا نحيبه واشتد بكاؤه، فقال: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعون عنكم الصلف وتقتسمون بالسوية، وتعدلون بالقضية، قال: كيف المأخذ من ذلك؟ قال: تأخذه بحقه وتدعه بحقه في أهله، قال: يا أبا حازم فما أعدل العدل؟ قال: كلمة صدق عند من ترجو أو تخافه، قال: فما أسرع الدعاء إجابة؟ قال: دعاء المحسن إليه للمحسن قال: فما أفضل الصدقة؟ قال: جهد المقل في البائس الفقير لا يتبعها منا ولا أذى.

قال: يا أبا حازم من أكيس الناس؟ قال: رجل ظفر بطاعة الله فعمل بها ثم دل الناس عليها، قال: فمن أحق الناس؟ قال: رجل اغتاط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنياه.

قال: هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك.

قال: كلا.

قال: ولم؟ قال: إني أخاف أن أركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، قال: ثم لا يكون لي منك نصير.

قال: يا أبا حازم ارفع إلي حاجتك، قال: نعم تدخلني الجنة وتخرجني من النار؟ قال: ليس ذلك إلي.

قال [ ص: 799 ] :

فما لي حاجة سواها، قال: يا أبا حازم ادع الله لي.

قال: نعم، اللهم إن كان سليمان من أوليائك فيسره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان من أعدائك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى، قال سليمان: قط.

قال أبو حازم: قد أكثرت وأطنبت إن كنت من أهله، وإن لم تكن من أهله، فما حاجتك أن ترمي عن قوس ليس لها وتر، قال: فما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين، قال: بل نصيحة تلقيها إلي.

قال: إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر فأخذوه عنوة بالسيف من غير مشورة ولا اجتماع من الناس، وقد قتلوا فيه مقتلة عظيمة وارتحلوا، فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم.

قال رجل من جلسائه: بئس ما قلت، قال أبو حازم: كذبت، إن الله تعالى أخذ على العلماء الميثاق: لتبيننه للناس ولا تكتمونه .

قال سليمان: يا أبا حازم أوصني.

قال: نعم، سوف أوصيك فأوجز، "نزه الله وعظمه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك" ثم قام، فلما ولى قال: يا أبا حازم هذه مائة دينار أنفقها ولك عندي أمثالها كثير، فرمى بها وقال: والله ما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي.

إني أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلا وردي عليك بذلا، إن موسى بن عمران عليه السلام لما ورد ماء مدين قال: [ ص: 800 ] رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير .

سأل موسى ربه عز وجل ولم يسأل الناس ففطنت الجاريتان ولم يفطن الرعاء، لما فطنتا له فأتتا أباهما شعيبا فأخبرتاه خبره فقال شعيب: ينبغي أن يكون هذا جائعا، ثم قال: لإحداهما اذهبي ادعيه لي، فلما أتته أعظمته وغطت وجهها، ثم: قالت إن أبي يدعوك .

فلما قالت: ليجزيك أجر ما سقيت .

كره موسى عليه السلام ذلك، وأراد أن لا يتبعها فلم يجد بدا أن يتبعها لأنه كان في أرض مسبعة وخوف، فخرج معها فكانت الرياح تضرب ثوبها فتصف لموسى عجزها، فيغض مرة ويعرض أخرى فقال: يا أمة الله كوني خلفي، فدخل إلى شعيب عليهما السلام والعشاء مهيأ فقال: كل، فقال موسى عليه السلام: لا، قال شعيب: ألست جائعا؟ قال: بلى.

ولكني من أهل بيت لا يبيع شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا، وأخشى أن يكون أجر ما سقيت لهما.

قال شعيب: لا يا شاب ولكن هذه عادتي وعادة آبائي، قراء الضيف وإطعام الطعام، قال: فجلس موسى عليه السلام فأكل.

فإن كانت هذه المائة دينار عوضا مما قد حدثتك، فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحل منه، وإن كانت من مال المسلمين فلي فيها شركاء ونظراء إن وازيتهم بي وإلا فلا حاجة لي فيها، إن بني إسرائيل لم يزالوا [ ص: 801 ] على الهدى والتقى حيث كانت أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبة في علمهم، فلما نكسوا وتعسوا وسقطوا من عين الله فآمنوا بالجبت والطاغوت، كان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم فشاركوهم في دنياهم وشركوا معهم في فتنتهم.

وقال أبو حازم: وجدت الدنيا شيئين: شيئا هو لي وشيئا هو لغيري، فأما ما كان لغيري فلو طلبته بحيلة السماوات والأرض لم أصل إليه، لأن الله يمنع رزق غيري مني كما يمنع رزقي من غيري.

وفي رواية أخرى: نظرت في الرزق فوجدته شيئين: شيئا هو لي له أجل ينتهي إليه فلن أعجله ولو طلبته بقوة السماوات والأرض، وشيئا هو لغيري فلم أصبه فيما مضى، أفأطلبه فيما بقي، ففي أي هذين أفني عمري؟ .

وقال: إن كان يغنيك ما يكفيك فأدني عيشك يكفيك، وإن كان لا يكفيك ما يغنيك فليس من الدنيا شيء يكفيك [ ص: 802 ] .

وقال: انظر إلى الذي تحب أن يكون معك في الآخرة فقدمه اليوم، وانظر إلى الذي تكره أن يكون معك فاتركه اليوم، وكل عمل تكره الموت من أجله فاتركه ثم لا يضرك متى مت.

وقال: لا يحسن عبد فيما بينه وبين الله إلا أحسن الله فيما بينه وبين العباد، ولا يعور فيما بينه وبين الله تعالى إلا عور الله فيما بينه وبين العباد، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها.

وقيل لأبي حازم: قد غلا السعر.

قال: وما يغمكم من ذلك؟ إن الذي يرزقنا في الرخص يرزقنا في الغلاء.

وقال: من عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء ولم يحزن على بلاء.

وقال: ما في الدنيا شيء يسرك إلا وقد لزق به شيء يسوؤك.

وقال: رضيت من أحدكم أن يبقي على دينه كما يبقي على نعله.

وقال: اكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك.

وقال: ابن آدم بعد الموت يأتيك الخبر.

وقال: رضي الناس بالحديث وتركوا العمل.

وقال: إني لأعظ وما أرى للموعظة موضعا، وما أريد بذلك إلا نفسي، وقال: شيئان هما خير [ ص: 803 ] الدنيا والآخرة، فإذا عملت بهما أتكفل لك بالجنة، ولا أطول عليك، قيل: وما هما؟ قال: تحمل ما تكره إذا أحبه الله وتترك ما تحب إذا كرهه الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية