صفحة جزء
وأما معنى التصحيف وقولهم صحفي ، فقد قال الخليل بن أحمد: الصحفي الذي يروي الخطأ على قراءة الصحف باشتباه الحروف . وقال غيره: أصل هذا أن قوما كانوا أخذوا العلم من الصحف من غير أن يلقوا فيه العلماء ، فكان يقع فيما يروونه التغيير . فيقال عندها قد صحفوا ، أي قد رووه عن الصحف فهو مصحف ، ومصدره التصحيف .

حدثنا أبو العباس بن عمار ، حدثنا ابن أبي سعد ، حدثنا إبراهيم بن حاتم التميمي ، حدثني شريك ، عن عبد الملك بن عمير عن الحارث بن كلدة -وكان أطب العرب ، وكان [ ص: 25 ] يجلس في مقثأة له- قال: الشمس تتفل الريح ، وتبلي الثوب ، وتخرج الداء الدفين . فقال شريك: الشمس تنقل الريح . بالقاف ، فقيل: يا أبا عبد الله ما تنقل الريح ؟ قال: تغيره . قال فقال لي عبد الرحيم بن أحمد: قد صحف في موضعين: في قوله: وكان يجلس في مقثأة ، وإنما هو في مقنأة بالنون ، وهو الموضع الذي لا تصيبه الشمس . وفي قوله: تنقل الريح ، وإنما هي تتفل الريح . بالفاء أي تغيره وتنتنه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وليخرجن تفلات" أي غير متطيبات . ذهب شريك في المقثأة إلى أنه الموضع الذي تزرع فيه القثاء ، وإنما المقنأة –بالنون- الموضع الذي لا تصيبه الشمس . وتقول العرب: لا خير [ ص: 26 ] في شجرة في مقنأة ، أي لا تصيبها الشمس ، ولا خير في نبات في مضحاة أي لا يصيبها الظل .

وأخبرنا ابن عمار ، حدثنا عبد الله بن أبي سعد ، عن إبراهيم بن سعيد ، قال: سمعت يحيى بن سعيد الأموي يقول: كان ابن إسحاق يصحف في الأسماء ، لأنه إنما أخذها من الديوان .

وأخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال: سمعت القاضي المقدمي يحكي عن إبراهيم بن أورمة الأصبهاني قال: قرأ عثمان بن أبي شيبة: [ ص: 27 ] (جعل السقاية في رجل أخيه) فقيل له: في رحل أخيه فقال: تحت الجيم واحدة .

حدثنا ابن عمار ، حدثنا ابن أبي سعد الوراق ، عن العباس بن ميمون يعرف بطابع ، قال: صحف أبو موسى الزمن محمد بن المثنى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث أتاه أعرابي وعلى يده سخلة [ ص: 28 ] تيعر ، قال أبو موسى: تنعر بالنون . وتيعر بالياء تصيح .

قال أبو العباس: وقد أنشدنا الأصمعي:


وأما أشجع الخنثى فولوا تيوسا بالحجاز لها يعار



قرأت على أبي بكر بن دريد . يقال: يعرت الشاة تيعر يعارا . واليعار: صوت الجدي .

أخبرني أبي رحمه الله ، حدثنا عسل بن ذكوان ، عن الرياشي [ ص: 29 ] قال: توفي ابن لبعض المهالبة ، فأتاه شبيب بن شيبة المنقري يعزيه ، وعنده بكر بن حبيب السهمي ، فقال شبيب: بلغنا أن الطفل لا يزال محبنظيا على باب الجنة يشفع لأبويه . فقال بكر بن حبيب: إنما هو محبنطئ . بالطاء . فقال شبيب: "أتقول لي هذا وما بين لابتيها أفصح مني ؟!" فقال بكر: وهذا [ ص: 30 ] خطأ ثان ، ما للبصرة واللوب ؟ لعلك غرك قولهم: ما بين لابتي المدينة ، يريدون الحرة . قال الشيخ: الحرة أرض تركبها حجارة سود وهي اللابة ، وجمعها لابات ، فإذا كثرت فهي اللوب ، وللمدينة لابتان من جانبيها ، وليس للبصرة لابة ولا حرة .

وأما قوله محبنطئ ، فقال أبو عبيد: المحبنطي بغير همز: هو المتغضب المستبطئ للشيء ، والمحبنطئ بالهمز: هو العظيم البطن المنتفخ .

أخبرنا أبو العباس بن عمار ، حدثنا ابن أبي سعد ، حدثنا العباس بن ميمون قال: قال لي ابن عائشة: جاءني أبو الحسن المدائني فتحدث بحديث خالد بن الوليد - رضي الله عنه- حين أراد أن يغير على طرف من أطراف الشام . وقول الشاعر في دلالة رافع:

[ ص: 31 ]

لله در رافع أنى اهتدى     فوز من قراقر إلى سوى
خمسا إذا ما سارها الجبس بكى



فقال: الجيش . فقلت: لو كان الجيش لكان: بكوا ، وعلمت أن علمه من الصحف . قلت أنا: أما قول ابن عائشة: إن الرواية: الجبس بكى ، فهو كما قال ؛ وهو صحيح ، وأما قوله: لو كان الجيش لكان بكوا . فقد وهم في هذا ، ويجوز أن يقال للجيش: بكى ، فيحمل على اللفظ ، وقد قال طفيل الخيل لأوس بن حجر حين عابه:


إن يك عارا بالقنان أتيته     فراري فإن الجيش قد فر أجمع



أنبأنا أبو بكر بن دريد ، أنبأنا الرياشي عن [ ص: 32 ] الأصمعي قال: كنت في مجلس شعبة فقال: فيسمعون جرش [ ص: 33 ] طير الجنة . فقلت: جرس . فنظر إلي فقال: خذوها عنه فإنه أعلم بهذا منا . يقال: سمعت جرس الطير إذا سمعت صوت منقاره على شيء يأكله . وسميت النحل جوارس من هذا لأنها تجرس الشجر ، أي تأكل منه ، والجرس: الصوت الخفي ، واشتقاق الجرس من الصوت والحس ، يقال: ما سمعت منه حسا ولا جرسا ، إذا أتبعوا اللفظ اللفظ كسروا الجيم ، وإذا أفردوا فتحوا الجيم . وكان شعبة متواضعا في العلم معظما لأهله .

التالي السابق


الخدمات العلمية