صفحة جزء
فلما دخل شهر ذي الحجة حج عمر بن الخطاب سنة إحدى عشرة ، واشترى مولاه أسلم في حجته تلك ، ثم رجع إلى المدينة .

ثم وجه أبو بكر خالد بن الوليد إلى اليمامة ، وكان مسيلمة قد تنبأ بها في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان أمره ضعيفا ، ثم وفد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجع إلى قومه ، فشهد رجال بن عنفوة لأهل اليمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أشركه في الأمر ، فعظم فتنة عليهم .

وخرج خالد بن الوليد بالمهاجرين والأنصار حتى إذا دنا من اليمامة نزل واديا من أوديتهم ، فأصاب في ذلك الوادي مجاعة بن مرارة في عشرين رجلا ، منهم كانوا خرجوا يطلبون رجلا من بني تميم ، وكان أصاب لهم دما في الجاهلية ، فلم يقدروا عليه ، فباتوا بذلك الوادي ، فلم ينبههم إلا خيل المسلمين قد وقفت عليهم ، فقالوا : من القوم ؟ فقالوا : بنو حنيفة ، قال : فلا أنعم لكم علينا ، ثم نزلوا فاستوثقوا منهم ، فلما أصبح دعاهم خالد بن الوليد فقال : يا بني حنيفة ما تقولون ؟ فقالوا : منا نبيء ومنكم نبيء [ ص: 173 ] فعرضهم خالد على السيف حتى بقي سارية بن عامر ومجاعة بن مرارة ، فقال له سارية : يا أيها الرجل إن كنت تريد هذه القرية فاستبق هذا الرجل ، وأوثق مجاعة في الحديد ، ودفعه إلى أم تميم امرأته ، وقال : استوصي به خيرا ، وضرب عنق سارية بن عامر ، ثم سار بالمسلمين حتى نزل على كثيب مشرف على اليمامة ، وضرب معسكره هناك ، وخرج أهل اليمامة مع مسيلمة ، وتصاف الناس ، وكان خالد جالسا على سريره ، ومجاعة مكبل عنده ، والناس على مصافهم ، إذ رأى بارقة في بني حنيفة ، فقال خالد : أبشروا يا معشر المسلمين ، قد كفاكم الله عدوكم ، واختلف القوم فكر مجاعة إليه وهو مكبل ، فقال : كلا والله إنها الهندوانية خشوا من تحطمها فأبرزوها للشمس لتلين لهم ، فكان كما قال ، فلما التقى الناس كان أول من خرج رجال بن عنفوة فقتل ، واقتتل المسلمون قتالا شديدا حتى انهزم المسلمون ، وخلص أصحاب مسيلمة إلى الرحال ، ودخلوا فسطاط خالد بن الوليد ، وفيه مجاعة مكبلا عند أم تميم امرأة خالد ، فحمل عليها رجل بالسيف ، فقال مجاعة : أنا لها جار فنعمت الحرة ، عليكم بالرجال ، فرحبلوا الفسطاط بالسيف ، ثم إن المسلمين تداعوا ، فقال ثابت بن قيس بن شماس [ ص: 174 ] : بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين ، اللهم إني أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء المسلمون ، ثم أخذ سيفه حتى جالد به حتى قتل ، ورأى زيد بن الخطاب انكشاف المسلمين عن رحالهم ، فتقدم فقاتل حتى قتل ، وقام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك ، وكان البراء - فيما يقال - إذا حضر البأس أخذه انتفاض حتى يقعد عليه الرجال ثم يبول في سراويله ، فإذا بال صار مثل السبع ، فلما رأى ما صنع المسلمون من الانكشاف ، وما رأى من أهل اليمامة أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال ، فلما بال وثب ، فقال : أين يا معشر المسلمين ؟ أنا البراء بن مالك ، هلموا إلي ، فاجتمع عنده جماعة من المسلمين ، فقاتل القوم قتالا شديدا حتى خلصوا إلى محكم اليمامة ، وهو محكم بن الطفيل ، فلما بلغه القتال قال : يا معشر بني حنيفة ، الآن والله تستحقب الكرائم غير رضيات وينكحن غير حظيات ، فما كان عندكم من حسب فأخرجوه ، ثم تقدم فقاتل قتالا شديدا ، فرماه عبد الرحمن بن أبي بكر بسهم فوضعه في نحره فقتله ، وزحف المسلمون حتى ألجأوهم إلى الحديقة ، وفيها مسيلمة ، فقال البراء بن مالك : يا معشر المسلمين ارموني عليهم في الحديقة ، فقال الناس : لا تفعل يا براء ، فقال : والله [ ص: 175 ] أفعل ، فاحتمل حتى أشرف على الجدار ، فاقتحم ، فقاتلهم حتى فتحها الله للمسلمين ، ودخل عليهم المسلمون ، وقتل مسيلمة ، اشترك وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار في قتله ، فرماه وحشي بحربته وضربه الأنصاري بسيفه ، فكان وحشي يقول : ربك أعلم أينا قتله ، قلت : خير الناس وشر الناس .

فلما فرغ المسلمون من مسيلمة وأتى خالدا الخبر ، فخرج بمجاعة في الحديد يرسف معه ليدله على مسيلمة ، وكان يكشف القتلى حتى مر بمحكم بن الطفيل ، وكان رجلا جسيما وسيما ، فقال خالد : هذا صاحبكم ؟ فقال مجاعة : لا هذا والله خير منه وأكرم ، هذا محكم اليمامة ، ثم دخلوا الحديقة وقلبا القتلى ، فإذا رويجل أصيفر أخينس ، فقال مجاعة : إنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس وإن جماهير الناس في الحصون ، قال : ويلك ما تقول ؟ قال : والله إن ذلك لحق فهلم أصالحك على قومي ، فصالحه خالد بن الوليد على الصفراء والبيضاء والحلقة ونصف السبي ، ثم قال لمجاعة : امض إلى القوم فاعرض ما صنعت ، فانطلق إليهم ، ثم قال للنساء : البسن الحديد ، ثم أشرفن على الحصون ، ثم انتهى إلى خالد قال : إنهم لم يرضوا على مصالحتك عليه ، ولكن إن شئت شيئا صنعت وعرضت على القوم ، قال : ما هو ؟ قال : تأخذ ربع السبي ربعا ، قال خالد : [ ص: 176 ] قد فعلت ، قال : قد صالحتك ، فلما فرغا دخلوا الحصن ، فإذا ليس رجل واحد رماهم إلا النساء والصبيان ، فقال خالد لمجاعة : خدعتني ، قال : قومي .

ثم بعث أبو بكر إلى خالد بن الوليد بسلمة بن سلامة بن وقش يأمره أن لا يستبقي من بني حنيفة رجلا قد أنبت ، فأتاه سلمة وقد فرغ خالد من الصلح .

ثم إن خالدا قد بعث وفدا من بني حنيفة إلى أبي بكر ، فقدموا عليه ، فقال أبو بكر : ويحكم ما هذا الرجل الذي استزل منكم ما استزل ؟ قالوا : يا خليفة رسول الله قد كان الذي بلغك ، وكان امرأ لم يبارك الله له ولا لعشيرته فيه ، قال أبو بكر : على ذلك ما دعاكم إليه ؟ قالوا : كان يقول : يا ضفدع نقي نقي ، لا الشراب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوم يعتدون ، فقال أبو بكر : سبحان الله سبحان الله .

فلما فرغ خالد من الصلح نزل واديا من أودية اليمامة ، فبينما هو قاعد [ ص: 177 ] إذ دخل عليه رجل من بني حنيفة يقال له : سلمة بن عمير ، فقال لمجاعة : استأذن لي على الأمير ، فإن لي إليه حاجة ، فأتى عليه مجاعة ، ثم قال مجاعة : إني والله لا أعرف الشر في وجهه ، ثم نظر فإذا هو مشتمل على السيف فقال : ما لك لعنك الله ؟ أردت أن تستأصل بني حنيفة ، والله لئن قتلته ما ترك في بني حنيفة صغير ولا كبير إلا قتل ، فانقلب الرجل ومعه سيفه ، فوقع في حائط من حوائط اليمامة ، وحبس به المسلمون ، فدخلوا خلف الحائط فقتل .

التالي السابق


الخدمات العلمية