[ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم.
مقدمة
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
الحمد لله الذي دل على معرفته بإتقان صنعته، وبديع لطائف حكمته، وبما أودعه نفوس المميزين من أعلام ربوبيته، واستحق على كل مكلف الخنوع لعظمته، والخشوع لعزته، والشكر والإشادة بما أسبغ من نعمته، ونشر من رحمته، وجعل قلوب أوليائه تسرح في ميادين محاسن ما ابتدعه، وعقولهم ترتاح لما من عليهم من استنباط المعرفة بما اخترعه، فأغناهم بالتنعم بما بسط لهم من المباحات، عما زجرهم عنه من المحظورات، فصار ما تدركه العقول من لطيف ما أنشأه، وشريف الغرض فيما ابتدأه، وغريب أفعاله في تدبير عباده، وتصريفهم، وتقدير منافعهم ومصالحهم، أقواتا لها تربى على أقوات أجسادها التي هي أوعية تشتمل عليها، وأشهد أن لا إله إلا الله، ولي النعم كلها دون من سواه، وأنه لا فلاح إلا لمن هداه، ولا صلاح إلا لمن عصمه من اتباع هواه، وأن
محمدا عبده الذي ارتضاه، ونبيه الذي اختاره واجتباه، ورسوله الذي ائتمنه واصطفاه، ورفعه وأعلاه، وخصه بختم النبوة وحباه، وأبانه بأعلى منازل الفضل على كل آدمي عداه، ونسأله أن يصلي عليه وعلى آله ويسلم أزكى تسليم وصلاة، ويكرمه أتم تكريم وأنباه، ويجعلنا من الآوين إلى ظله وذراه، والداعين إلى نوره وهداه، ويعصمنا من الخروج عن طاعته، والولوج في معصيته، ويوفقنا لإيثار عبادته، ومجانبة عصيانه ومخالفته، وهو ولي الإنعام بذلك، والتيسير له، والمعونة عليه من رحمته.
أما بعد، فإنني منذ مدة مضت، وسنة خلت، فكرت في أشياء من عجائب خلق الله وحكمه، وأياديه ونعمه، ومثلاته ونقمه، وقد اكتنفتني هموم وأحزان، ولوعات وأشجان، وفنون شتى من حوادث الزمان، وما قد فشا في الناس من التظالم والتحاسد، والتقاطع والتباعد، وأن ما هو أولى بهم من الأنس للمجانسة، قد فارقوه إلى الاستيحاش للمنافسة، وحصلت على الاستئناس بالوحدة والخلوة، ثم تطلعت إلى جليس طمعا في أنس وسلوة، فأعوزني ذو لب عاقل، واتفق لي كل غبي جاهل، فلاح لي أن أنشئ كتابا أضمنه أنواعا من الجد الذي يستفاد ويعتمد عليه، ومن الهزل في أثنائه ما يسر استماعه ويستراح إليه، فإن اختلاف الأنواع يسهل النظر فيها، وينشط الوقوف عليها، ويوفر الاستمتاع بها، وأن أضمنه علوما غزيرة وآدابا كثيرة، وأجعله مجالس موزعة على الأيام والليالي، ولم أشترط فيها مبلغا من العدد محصورا ولا قدرا من المجالس محظورا، ثم إن طوارق الزمان وموانعه، وأحداثه وفجائعه، وعوائقه وقواطعه، وأهواله وفظائعه، حالت بيني وبين ما آثرته، ونفسي على هذه متعلقة به، ومؤثرة له ومنازعة إليه، إلى حيث انتهينا، ثم إنني حملت نفسي في
[ ص: 6 ] هذا الوقت على الشروع فيه، الاشتغال به، وسهل الأمر علي فيه أن بعض أصحابنا يكتبه عني إملاء في الوقت بعد الوقت.
وقد صنف في نحو هذا الكتاب جماعة من أهل العلم والأدب كتبا على أنحاء مختلفة، فمنهم من جعل جملة كتابه جامعة لكتب مكتتبة، ومنهم من جعله أبوابا مبوبة، وأفرد أبوابه بفصول مميزة، ومعان خاصة غير ممتزجة، وسمى بعض هؤلاء ما ألفه الجواهر وبعضهم زاد المسافر وبعضهم الزهرة وبعضهم أنس الوحدة، في أشباه لهذه السمات عدة، وعمل أبو العباس محمد بن يزيد النحوي كتابه الذي سماه الكامل، وضمنه أخبارا وقصصا لا إسناد لكثير منها، وأودعه من اشتقاق اللغة وشرحها وبيان أسرارها وفقهها ما يأتي مثله به لسعة علمه وقوة فهمه، ولطيف فكرته، وصفاء قريحته، ومن جلي النحو والإعراب وغامضها ما يقل وجود من يسد فيه مسده، إلا أن كتابه هذا مقصر عما وسمه به، واختاره من ترجمته، وغير لائق به ما آثره من تسميته، فحطه بهذا عن منزلة - لولا ما صنعه - كانت حاصلة له، فسبحان الله ما أبين انتفاء هذا الكتاب عن نسبه، وأشد منافاته للقبه! وأنشأ الصولي كتابا سماها الأنواع مبوبا أبوابا شتى غير مستوفاة، وأتى فيه بأشياء مستحسنة على ما ضم إليه من أمور مستهجنة، وصنف أيضا كتابا كأبي قماش سماه النوادر، وهجاه بعض الشعراء بما كرهت حكايته، وإن كان حين وقف عليه فيما بلغني استغرب ضحكا، غير أن الجميل أجمل، والتسلم من أعراض الناس أمثل، وصنف قوم كتبا في هذا الباب تشتمل على فقر من الآداب والفوائد منثورة غير مبوبة، ومخلوطة غير مقيدة، بفصول متميزة ولا أبواب متحيزة.
وقد سميت كتابي الجليس الصالح الكافي، والأنيس الناصح الشافي وأودعته كثيرا من فنون العلوم والآداب، على غير حصر بفصول وأبواب، وضمنته كثيرا من محاسن الكلام وجواهره، وملحه ونوادره، وذكرت فيه أصولا من العلم أتبعتها شرح ما يتشعب منها، ويتصل بها بحسب ما يحضر في الحال، مما يؤمن معه الملال، ومن وقف على ما أتيت به من هذا، علم أن كتابنا أحق بأن يوصف بالكمال والاستيفاء، والتمام والاستقصاء، وصدق وسمه بالجليس والأنيس، فإن الكتاب إذا حوى ما وصفناه من الحكمة وأنواع الفائدة، كان لمقتنيه والناظر فيه بمنزلة جليس كامل وأنيس فاضل، وصاحب أمين عاقل، وقد قيل في الكتاب ما معناه أنه حاضر نفعه، مأمون ضره، ينشط بنشاطك فينبسط إليك، ويمل بملالك فينفض عنك، إن أدنيته دنا، وإن أنأيته نأى، لا يبغيك شرا، ولا يفشي عليك سرا، ولا ينم عليك، ولا يسعى بنميمة إليك، ولذلك قال بعضهم:
نعم الصاحب والجليس كتاب تلهو به إن خانك الأصحاب لا مفشيا عند القطيعة سره
وتنال منه حكمة وصواب
[ ص: 7 ] وقال آخر:
لنا جلساء ما نمل حديثهم ألباء مأمونون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم طرف حكمة ولا نتقي منهم لسانا ولا يدا
في أبيات.
وذكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك أنه سئل: أما تستوحش من مقامك منفردا بهيت؟ فقال:
كيف يستوحش من يجالس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، وقد كان بعض من كان له في الدنيا صيت ومكانة، عاتبني على ملازمتي المنزل، وإغبابي زيارته، وإقلالي ما عودته من الإلمام به وغشيان حضرته، وقال لي: أما تستوحش الوحدة ونحو هذا من المقالة، فقلت له: أنا في منزلي إذا خلوت من جليس يقصد مجالستي، ويؤثر مساجلتي، في أحسن أنس وأجمله، وأعلاه وأنبله، لأنني أنظر في آثار الملائكة والأنبياء، والأئمة والعلماء، وخواص الأعلام الحكماء، وإلى غيرهم من الخلفاء والوزراء، والملوك والعظماء، والفلاسفة والأدباء، والكتاب والبلغاء، والرجاز والشعراء، وكأنني مجالس لهم، ومستأنس بهم، وغير ناء عن محاضرتهم لوقوفي على أنبائهم، ونظري فيما انتهى إلي من حكمهم وآرائهم.
وقد تجشمت إملاء هذا الكتاب على ما خلفته ورائي من طول السنين، حصلت فيه من عشر التسعين، مع ترادف الهموم وتكاثف الغموم، ومشاهدة ما أزال مرتمضا به، وممتعضا منه لفساد الزمان وانتكاسه، وعجيب تقلبه وانعكاسه، واختلاطه وارتكاسه، ووضعه الأعلام الرفعاء، ورفعه الطغام الوضعاء، فقد أحل الأراذل محل الأفاضل، وأعطى السفيه الأخرق حظ النبيه العاقل، وصرف نصيب العالم إلى الجاهل، وصير الناقص مكان الوافر الكامل، والراجح الفاضل، وقدم على العالم المبرز الغافل الخامل، ولقد قلت في بعض ما دفعت إليه، وامتحنت به، حين منعت النصف، وحملت على الخسف، حتى انقدت للعنف، وأصبحت عند الغلبة والعسف:
علام أعوم في الشبه وأمري غير مشتبه
أرى الأيام معتبرا على ما بي من الوله
بلحظ غير ذي سنة وحظ غير منتبه
أروح وأغتدي غبنا أكثر من أقل به
وقلت في نحو هذا المعنى:
أأقتبس الضياء من الضباب وألتمس الشراب من السراب
أريد من الزمان النذل بذلا وأريا من جنى سلع وصاب
أرجي أن ألاقي لاشتياقي سراة الناس في زمن الكلاب
في كثير من نحو هذا من النثر والقريض، وذم الزمان السوء بالصريح والتعريض،
[ ص: 8 ] وأرجو أن يغير الله ما أصبحنا منه ممتعضين، وأمسينا معه مرتمضين، ويشفي صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوب الأماثل من العلماء المبرزين، فقد بلغ منهم ما يرون من تقديم الأراذل الضلال، والأداني الجهال، حتى صدروا في مجالس علم الدين، وقدموا في محافل ولاة أمور المسلمين، وصيروا قضاة وحكاما ورؤساء وأعلاما، دون ذوي الأقدار، وأولي الشرف والأخطار، وكثير ممن يشار إليهم منهم لا يفهم من كتاب الله آية، وإن تعاطى تلاوتها لحن فيها، وأتى بخلاف ما أنزل الله منها، ولا كتبوا سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا دروها، وإن تكلفوا ذكرها أحالوها، وآتو بها على غير وجهها، ولا عرفوا شيئا من أبواب العربية وتصريفها، ولا لهم حظ من الفلسفة وأجزائها، ومع هذه فقد اتفق لبعضهم من فريق قد شدا من العلم طرفا، ونال منه حظا، عدد يعظمونه ويغلون في تعظيمه وتقديمه على أنفسهم، وإن كان أسوأ حالا وأخفض عقلا منهم، كما عبد الأصنام من هو أعلى منزلة منها بالحياة والقدرة، والعلم والمعرفة، والبطش والقوة، والتصرف والحيلة، وأقدم هؤلاء الأغمار على الشهادة بالزور لمن وصفنا جهله وسقوطه، بإضافتهم إليه من العلم بما هو أجهل الناس به، وأبعدهم من معرفته لميلهم إلى بعض ضلالاته، وأنسهم بكثير من خساراته، وإن كانت بخلاف ما يعذرون فيها من موافقته، فقد صاروا سخريا مسخورا منهم، وسخريا مسخرين لتقليد من وصفنا صفته، واستمر هذا الفريق المغرور على اتباع حزب الشيطان الذين اغتروا بهم، وبذلوا المناصرة لهم وممالأتهم ومضافرتهم وإعزازهم، ومظاهرتهم وتأييدهم ومؤازرتهم، واستفزهم ما يزخرفونه لهم من كلامهم، وإن كان مسترذلا، ومخطأ ملحنا، عند من أعلاه الله من أفاضل العلماء عليهم، وأبانهم بالعلم والتفقه في الدين منهم، إذ أكثر ما يأتون به من الهجر الذي يسميه قوم الهاذور، وبمنزلة من قال فيه بعض الشعراء:
هذريان هذر هذاءة موشك السقطة ذو لب نثر
واستنزلهم من عبارتهم ما هو من نوع هجر باعة القميحة السفوفيين، وتنميق هذه أصحاب الفاكهة والرياحين، وهذيان أهل الحكاية والمخيلين، فلما وصفنا جنحنا إلى الصبر، واستصحبنا، الخمول رجاء إنعام الله بالإعانة والنصر، وذكرت - في وقتي هذا عند إثباتي ما أثبته من حال ذوي النقص الذي يتقلبون في دولة، وإن كانوا من باطلهم في بولة، على أنها سحابة صيف عن قليل تقشع - خبرا حدثنا به
محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=15197محمد بن المرزبان، قال: حدثنا
محمد بن عثمان بن مهدي الأبلي، قال: حدثنا
محمد بن عبد الرحمن السايح، قال: حدثنا
حماد بن محمد بن عبد الله، قال: حدثنا
محمد بن شعيب بن سابور، قال: سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي ينشد هذه الأبيات:
[ ص: 9 ] إذا كان الخطاء أقل ضرا وأنجح بالأمور من الصواب
وكان النوك محمودا مذالا وكان الدهر يرجع بانقلاب
وعطلت المكارم والمعالي وأغلق دون ذلك كل باب
ويوعد كل ذي حسب ودين وقرب كل مهتوك الحجاب
فما أحد أضن بما لديه من المتحرج المحض اللباب
وأنشد شيخنا
أبو جعفر الطبري رحمه الله هذه الأبيات، وفيما أنشده بيت آخر وهو:
وولي بعضهم خرجا وحربا وولي بعضهم فصل الخطاب
وحذف من الجملة بيتا.
وأنا منه هذه الرسالة إلى هذا الموضع، ومبتدئ بما قصدت إيداعه هذه الكتاب وتضمينه إياه.
[ ص: 10 ]