صفحة جزء
أو متى تفيد الشك

ويقال إن معاوية قال له لما أنشد هذا البيت: قد شككت، فقال: ما شككت، قال الله عز وجل: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين أفهذا شك؟. والذي احتج به أبو الأسود بين الصحة، والإنسان يقول مثل هذا على المناصفة وتحسين المخاطبة والإرهاص لتمكين الحجة ونفي الشبهة وملاينة الخصم، فإنها مما قد تعطفه إلى المقاربة، وتثنيه عن اللدد والمشاغبة. وقد يقول الرجل لمن ركب معه البهت في مناظرته والمكابرة في منازعته: قد زعمت أنه إذا جمع بين النار والقطن أنه لا يحترق القطن، فنحن نجمع بينهما فننظر أيحترق أم لا، فإن لم يحترق فالقول ما قلت، وإن احترق فالقول فيه على ما قلنا. وقائل هذا ليس يحتاج بجمعه بين هذين الشيئين إلى علم شيء جهله، ولا [ ص: 719 ] دفع شك عرض له، ولكنه لاستظهاره قصد حسم شغب خصمه، ورده إلى الحق عن باطله. قال الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا وقال عز اسمه أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون وقال جل ثناؤه في قصة يوسف عليه السلام إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين . ألا ترى إلى المساواة في الشرطين وجوابهما، وإلى الحكمة والمبالغة في التفقه وجميل المحاورة، والتبدية بذكر المبطلة وتقديم الإخبار عن تصديقها إن كانت لها الحجة، وهذا باب واسع. وقد قال قائلون: إن قوله أو إياكم بمعنى وإياكم، وزعموا أن أو بمعنى الواو، فادعوا مثل هذا في مواضع من القرآن كثيرة، كقوله تعالى: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ثم قال: أو كصيب من السماء وكقوله: فهي كالحجارة أو أشد قسوة وقوله تعالى: وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون وقوله تعالى: ولا تطع منهم آثما أو كفورا وزعموا أن أو قد تأتي بمعنى الواو، واستشهدوا بقول الشاعر:


فلو كان البكاء يرد شيئا بكيت على بجير أو عفاق     على المرءين إذ مضيا جميعا
لشأنهما بشجو واشتياق



المعنى على بجير وعفاق، واستدلوا على هذا بقوله: " على المؤمنين "، ومثله قول جرير:


نال الخلافة أو كانت له قدرا     كما أتى ربه موسى على قدر



وأبى محققة النحويين هذه الطريقة، وتأولوا كل شيء مما أتى هؤلاء به وتلوه واستشهدوا به ورووه على خلاف تأويلهم. وإنما أوقع الذين زعموا أن " أو " تكون بمعنى الواو فيما ذهبوا إليه من خلاف القياس المميز بين الألفاظ المختلفة المعاني في أصولها، وإنما تقاربت في بعض وجوهها، وجودهم ألفاظا اشتبهت عليهم لتقاربها، فخلطوا بعضها ببعض، ولم ينعموا النظر فيها، فيحصلوا تمييزها، ويبقوا على ما يختص به كل نوع منها، ويتبينوا أوجه تقاربها وعلة اشتراكها وتداخلها، وذلك كقولهم: اجلس في السوق أو المسجد، وجالس الحسن أو ابن سيرين، وخالط الفقهاء أو النحويين، وكل اللحم أو الشحم، والتمر أو الزبيب، والرطب أو العنب. وهذا باب يسمى باب الإباحة وليس من باب الشك وتخير أحد المذكورين وحظر الجمع بينهما. فلما لم يحكموا معاني هذا النوع على حقيقتها، وأغفلوا ملاحظة تفصيلها وتمييزها ذهبوا عن وجه الصواب فيها. ولتفصيل ما يشتمل هذا الباب عليه وشرح علله واستيفاء شعبه وأقسامه موضع هو أخص به.

[ ص: 720 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية