صفحة جزء
المجلس الثاني والعشرون

فضل العقل

حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي سعيد، أبو بكر البزاز، قال: حدثنا محمد بن عبد النور الحراني، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن [ ص: 165 ] عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تقرب الناس إلى خالقهم بأنواع البر فتقرب إليه بأنواع العقل، تسبقهم بالدرجات والزلف عند الناس في الدنيا وعند الله في الآخرة" .

قال القاضي: وهذا ما يبين به شرف العقل وفضله، وأن الأعمال الصالحة تزكو به ويتضاعف ثواب عاملها بحسب حظهم منه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الرجل ليكون من أهل الصلاة وأهل الصيام وأهل الجهاد - حتى عد سهام الخير – ويجازى إلا على قدر عقله" وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما استودع الله عز وجل عبدا عقلا إلا استنقذه به يوما ما" .

وما روي عن العقل وفضله، وشرف منزلته، وعظيم نفعه، أكثر من أن يحصى.

وقد حدثنا الحارث بن محمد بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن حسين، عن عمرو بن حمزة، قال: حدثنا صالح المري، عن حسن، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحكمة تزيد الشريف شرفا، وترفع العبد المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك" . وإن في هذا ما يرغب في اقتباس العلم واكتساب الحكمة ورفع المرء قدره عن طبقة العوام، ومنزلة الهمج الطغام، فكم ذي علم ومعرفة وحكمة وبصيرة، قد نبه وسما وارتفع وعلا، وصار متبوعا معظما وزعيما مقدما، وكم من ذي قدر وحسب، ومنصب ونسب، ومال ونشب، وشرف في أصله، ومنزلة في أهله، قد هدم ما بناه له أهله وشيدوه، وخفض ما رفعوه، وحط ما علوه وعمدوه، وقد روينا أن بعض ولد روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب وجد في القبة التي بالبصرة، وهي التي يقال لها "خضراء روح" على سوءة، فقيل له: ويحك أفي محل شرفك؟! فقال:


ورثنا المجد عن آباء صدق أسأنا في ديارهم الصنيعا

ومما يستحسن في هذا المعنى قول القائل:


إن الفتى من يقول هأنذا     ليس الفتى من يقول كان أبي

ولله در القائل:


لسنا وإن أحسابنا كرمت     أبدا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني     ونفعل مثل ما فعلوا

وقد روينا أن زيد بن علي تمثل بهذين البيتين، ولقد كان رضوان الله عليه من أعلام الأبرار والأئمة الأخيار، سلك سبيل سلفه، واقتفى آثارهم فارتفع واعتلى، وأم أنوارهم فاستبصر واهتدى، ورفع قواعد بنيانهم، وشيد وثيق أركانهم، واتبع سبيلهم في نصرة حزب الإسلام وأوليائه، ومحاربة حرب الدين وأعدائه، وغضب لله جل جلاله من طغيان [ ص: 166 ] المترفين وعدوان المسرفين، فجاهد في سبيل ربه بنفسه ومن أطاعه من أهله المتقين، وأوليائه من أماثل المسلمين، وإخوانه في الملة والدين، وأبدى صفحته، وبذل في ذات الله ماله وصحبته، فقضى الله تعالى له بالتوفيق والسعادة، وختم له بالفوز والشهادة، ونقله إلى دار كرامته، وجعل أعداءه بغرض الانقلاب إلى دار عذابه ونقمته.

حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا أبو معاذ المؤدب خلف بن أحمد، قال سمعت المازني ينشد:


ولرب ذي مال تراه مباعدا     كالكلب ينبح من وراء الباب
وترى الأديب وإن دهته خصاصة     لا يستخف به على الأبواب

ولقد أحسن ابن الرومي في قوله:


فلا تفتخر إلا بما أنت فاعل     ولا تحسبن المجد يورث كالنسب
وليس يسود المرء إلا بفعله     وإن عد آباء كراما ذوي حسب
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة     من المثمرات اعتده الناس في الحطب

وهذا باب يتسع ويكثر جمعه، ولنا فيه رسالة تشتمل على جملة كثيرة منه.

التالي السابق


الخدمات العلمية