المجلس السابع والعشرون
مذق فمذق له
حدثنا أبي رحمه الله، ثنا
أبو عبد الله محمد بن العباس مولى بني هاشم، قال: حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=16887محمد بن أبي السري، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16627علي بن عاصم، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15767حميد الطويل، عن
الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بينا رجل ممن كان قبلكم يتجر بالخمر في البحر إذ فكر في نفسه، فقال: إني آتي قوما لا معرفة لهم بجيد الخمر من رديئه، فلو أني مزجت الخمر أضعف لي في الثمن، فأمهل حتى استعذبوا الماء، فعمد إلى أوانيه فنصفها من الخمر ثم مزجه بالماء حتى ملأها، ثم أتى الموضع فباع بضعف ما كان يبيع، فلما انصرف رأى في طريقه قردة [ ص: 206 ] فاستحسنها فاشتراها. وحملها معه في سفينته، فلما لججوا عدت القردة على كيسه فأخذته وصعدت الدقل، فأقعت عليه والكيس بين رجليها، فصاح بها أهل السفينة، فقال لهم: لا تفعلوا فإني أخاف أن تقذف بنفسها والكيس في البحر، فتركوها ففتحت الكيس ثم أقبلت تخرج دينارا فترمي به في السفينة ودينارا في البحر، ودرهما في السفينة ودرهما في البحر، حتى أتت على جميع ما في الكيس ثم نزلت في السفينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "مذق فمذق له.
قال
القاضي: في هذا الخبر ما أوجب
مجانبة الغش، وتدليس العيب في البيع، وظلم الناس في أموالهم، وبخسهم أشياءهم، وتخويف لذوي الألباب بتعجيل العقوبة لهم، وسوء العاقبة في أموالهم، وسلبهم ما طمعوا أن يتمتعوا به في دنياهم، وينتفعوا به في معايشهم مع التعرض للإثم في معادهم، وحلول ما لا قبل لهم به من عقوبة ربهم.
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"مذق فمذق له" أي مزج سلعته بغيرها غشا للناس إرادة تثمير ماله وغش غيره، فجوزي بسلبه الفضل الذي ظلم بأخذه، فسميت مجازاته مذقا، إلحاقا لها بالممذوق في حقيقة اللغة من جهة التسمية، وهذا ضرب من فصيح كلام العرب، ومستحسن خطابها، كما قال الله تعالى:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، فسمى المبتدأ باسم الجزاء، وإن كان الابتداء لا يسمى عقوبة في انفراده، طلبا للائتلاف، واتفاق ألفاظ الجملة في الخطاب، وهذا كثير في القرآن وألفاظ الشريعة، ومنثور كلام العرب ومنظومه، من ذلك قول
عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وأصل المذق فيما ذكرنا: الخلط والمزج، يقال: لبن صرف وصريف وممذوق، ويقال له أيضا: مذق، فيسمى باسم المصدر، كما قال الشاعر:
لم يسقها مذق ولا نصيف ولا تميرات ولا تعجيف
لكن غذاها المذق والصريف
وقد استعار هذا المعنى بعض المحدثين، فقال:
وأراك تشربني وتمذقني ولقد عهدتك شاربي صرفا
وقال
صالح بن عبد القدوس، وبعضهم يرويه
لسابق البربري: إن الكريم إذا أحبك قلبه أعطاك منه مودة لا تمذق
وقال
أبو معدان مولى آل أبي الحكم: جرعاني ممذوقة وامزجاها ليس صرف الشراب كالممذوق
وهذا النحو كثير واسع.