اعتذار بليغ لدى
المأمون
حدثنا
الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، قال: حدثنا
أبو الفضل العباس بن الفضل الربعي، قال: حدثنا
أبي وإبراهيم بن عيسى، قالا:
دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون - وقد كانت ضياعه حيزت وقبضت - فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، محمد بن عبد الملك بين يديك، سليل نعمتك، وابن دولتك، وغصن من أغصان دوحتك، أتأذن لي في الكلام؟ قال: نعم.
فتكلم فقال: الحمد لله رب العالمين، ولا إله إلا الله رب العرش العظيم، وصلى الله على ملائكته المقربين، وعلى محمد خاتم النبيين، ونستميح الله لحياطة ديننا ودنيانا، ورعاية أقصانا وأدنانا ببقائك يا أمير المؤمنين، ونسأل الله أن يمد في عمرك وفي أثرك من أعمارنا وآثارنا، وأن يقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا، فإن الحق لا تعفو دياره، ولا يتهدم مساره، ولا ينبت حبله، ولا يزول ظله، ما دمت ظل الله في رعيته، والأمين على عباده وبلاده.
يا أمير المؤمنين! هذا مقام العائذ بظلك، الهارب إلى كنفك وفضلك، الفقير إلى [ ص: 243 ] رحمتك وعدلك، من تعاور الغوائب، وسهام المصائب، وكلب الدهر، وذهاب الوفر، وفي نظر أمير المؤمنين ما فرج كربة المكروب، وبرد غليل الملهوف.
ثم إنه تقدم من رأي أمير المؤمنين في الضياع التي أفادناها نعم آبائه الطاهرين، ونوافل أسلافه الراشدين، ما الله ولي الخيرة فيه لأمير المؤمنين، وإن
nindex.php?page=showalam&ids=16489عبد الملك بن صالح قدم الجزيرة حين قدمها والحرب لاقح، والسيف مشهور، والشام قد نفل أديمه، وتحطمت قرونه، والسفياني قد استعرت ناره، وكثرت أنصاره، ولبس للحرب لباسها، وأعد لها أحلاسها، وكلنا يومئذ في ثوب القلة والصغار، بين حرب دائرة رحاها، وفتنة تصرف بأنيابها، فكأنا نهزة دواعيها، وغرض راميها، إذا ثارت عجاجة من عجاجها لم تنجل إلا عن شلو مأكول، أو دم مطلول، أو منزل مهدوم، أو مال مكلوم، أو قلب يجف، أو عين تذرف، أو حرمة حرى، أو طريدة ولهى، قد أتعس الله جدها، تهتف بسيدها أمير المؤمنين من تحت رحا الدهر، وكلكل الفقر، وتدعو الله بإلباس الصبر، وإعداد النصر، فالحمد لله المتطول على أوليائك يا أمير المؤمنين، إعزاز نصرك، المبلغهم اليوم الذي كانوا يأملون، والأمد الأقصى الذي كانوا ينتظرون.
ثم إني قمت هذا المقام متوسلا إليك بآبائك الطاهرين،
بالرشيد خير الهداة الراشدين،
والمهدي ربيع السنين،
والمنصور نكال الظالمين،
ومحمد خير المحمدين بعد خاتم النبيين والمرسلين، وبعلي زين العابدين، وبعبد الله ترجمان القرآن ولسان الدين،
وبالعباس وارث سيد المرسلين، مزدانا إليك بالطاعة التي أفرغ الله عليها غصني، واحتنكت بها سني، وسيط بها لحمي ودمي، متعوذا من شماتة الأعداء، وحلول البلاء، ومقارنة الشدة بعد الرخاء.
يا أمير المؤمنين! قد مضى جدك المنصور وعمك صالح بن علي وبينهما من الرضاع والنسب ما قد علم أمير المؤمنين، فكان ذلك له خصوصا ولبني أبيه عموما، فسبق به بني أبيه، وفات به أقربيه، وهو صاحب الجعدي الناجم في مصر، حين اجتث الله أصله، وأيبس فرعه، وصرعه مصرعه، وهو صاحب عبد الله بن علي حين دعا الشيطان أولياءه فأجابوه، ورفع لهم لواء الضلالة فاتبعوه. وهو صاحب عيسى بن موسى حين رمى الخلافة ببصره، وسما إليها بنظره، ومشى إليها البختري، ولبس لباس ولاة العهود، حتى أثبت الله الحق في نصابه، وأقره في قرابه.
يا أمير المؤمنين! الدهر ذو اغتيال، وقد تقلب بنا حالا بعد حال، فليرحم أمير المؤمنين الصبية الصغار، والعجائز المحجوبات الكبار، واللاتي سقاهن الدهر كدرا بعد صفو، ومرا بعد حلو، وهنيئا نعم آبائك اللاتي غذتنا صغارا وكبارا، وشبابا وأمشاجا في الأصلاب، ونطفا في الأرحام، وقربنا بحيث قربنا الله منك في القرابة والرحم، فإن رقابنا قد ذلت لسخطك، وإن وجوهنا قد عنت لموجدتك، فأقلنا عثرة عاثرنا، وعلى الله الملي
[ ص: 244 ] الجزاء، وإن الحق في يدك، فهب لنا ما قصرنا فيه من ترك الرمم البالية، للأمم الخالية، منا في طاعة آبائك، فقد مضوا متمسكين بأقوى وسائلها، معتصمين بأقوى حبائلها، يوالون فيها البعيد الجنيب، وينادون فيها القريب الحبيب، على ذلك مضوا وبقينا حتى يرثنا الله عز وجل، وهو خير الوارثين.
يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل سهل بك الوعور، وجلى بك أن تجور، وملأ من خوفك القلوب والصدور، وجعل اسمك حبلا كثيفا، وجبلا منيفا، يردع بك الفاسق، ويقمع بك المنافق، فارتبط نعم الله عز وجل عنك بالعفو والإحسان، فإن كل إمام مسؤول عن رعيته، وإن النعم لا تنقطع بالمزيد فيها حتى ينقطع الشكر عليها.
يا أمير المؤمنين! إنه لا عفو أفضل من عفو إمام قادر على مذنب عاثر، وقد قال الله عز وجل:
وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم .
حاط الله أمير المؤمنين بستره الضافي، وصنعه الكافي، ثم قال:
أمير المؤمنين أتاك ركب لهم قربى وليس لهم بلاد هم الصدر المقدم من قريش
وأنت الرأس يتبعك العباد فقد طابت لك الدنيا ولذت
وأرجو أن يطيب لك المعاد
فقال
المأمون: يفعل ذلك بمشيئة الله، وأسأله التوفيق في الرضا عنك، والإجابة إلى ما سألت، وأن يعقب ذلك محبوبا بمنه، وجميل عادته في مثله.
وأمر برد ضياعه، وأحسن جائزته، وقضى حاجاته.