الآية وما فيها من اللغة والنحو
فأما الآية ففيها من طريق علم اللغة ثلاثة أوجه، ومن جهة صناعة النحو والإعراب ثلاثة أضرب، فأحد الوجوه فيها من قبل اللغة أنها العلامة الفاصلة، والوجه الثاني أنها الأعجوبة الحاصلة، والوجه الثالث أنها المثلة الفاضلة، وهذه الأوجه الثلاثة إذا ردت إلى أصولها متقاربة راجعة في المعنى إلى طريقة واحدة، وجملة آحادها متناسبة، فإذا قيل: اجعل لكذا وكذا آية، فالمعنى علامة فاصلة تدل على الشيء بحضورها، وتفقد دلالتها بغيبتها، ألا ترى إلى قول الله جل ثناؤه:
قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس إلى آخر القصة فإنما سأل السائل ربه أن يجعل له علامة لما وعده وبشره به، في ما جانس هذه مما تضمنه كتاب الله عز ذكره، قال الشاعر:
ألا بلغ لديك بني تميم بآية ما يحبون الطعاما
وقال آخر:
ألكني إليها عمرك الله يا فتى بآية ما جاءت إلينا تهاديا
ومثل هذا في الشعر وسائر الكلام كثير.
ولما كان ذكر الآية يعني الأعجوبة فمنه ما ذكره الله عز ذكره في مواضع من كتابه
[ ص: 11 ] عند ذكره ما أحله من النقمة بأعدائه:
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين بمعنى العجب مما حل بهم عندما كان من تكذيبهم رسل ربهم.
وأما العبارة بالآية عن العقوبات المنكلة فكثيرة في كلام الخاصة من أهل اللسان العربي كقولهم: قد جعل فلان آية، إذا حل به فظيع من المكروه ألا ترى أنهم يقولون لمن نزل به شيء من هذا به، أو حصل على صفة مذمومة يعير بها ويسب ويوصم بها: فلان آية منزلة، فأما العقد الجامع لهذه الأوجه الثلاثة الذي يردها إلى جملة واحدة، فهو أن العلامة إنما قيل لها لدلالتها وفضلها وإبانتها، ووقع الفصل في القرآن بها حتى تميزت بعض ألفاظه من غيرها، فصارت كل قطعة من ذلك جملة على حالها.
وأما معنى الأعجوبة فإنما يقع في التعجب من المستغرب الذي يقل وقوعه، فينفصل من الكثير الموجود الذي يختلط فيها بعضه ببعض، ولا يكون فيه من الاختصاص ما في الموجود الذي قدمنا ذكره.
وأما النكال الحال بمن حل به فإنه يقال له آية، من حيث مسار أمره أعجوبة يعتبر ويتعظ بها، وكان معنى خاصا قوبل به أمر خاص بما أتاه من وقعت المجازاة به، فكل واحد من هذه الأوجه الثلاثة مجانس لصاحبه في أنه أمارة وعلامة وأعجوبة لاختصاصها بما فيه حجة باهرة، ودلالة قاهرة، ومثلة ونقمة لما فيه من التميز والعجب وفظيع التنكيل، بأهل الزيغ والتبديل.
وأما الأضرب الثلاثة من قبل النحو وتصريف الإعراب، فإن النحويين من الكوفيين والبصريين اختلفوا في الآية ما وزنها من الفعل، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي: هي في الأصل فاعلة وأصلها آيية، وكان ينبغي أن تدغم الياء الأولى في الثانية لاجتماعهما متحركتين فتصير آية مثل دابة التي أصلها دابية، فاستثقلوا التشديد فقالوا: آية.
وقال نحويو
البصرة: وزنها في الأصل فعلة وأصلها أيية، فصارت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء: وزنها من الفعل فعلة وأصلها أية، فاستثقلوا التشديد فأتبعوه ما قبله فصارت الياء الأولى ألفا كما قالوا: ديوان ودينار والأصل فيها دوان ودنار، والدليل على ذلك أنهم يقولون في جمعها دواوين ودنانير، ولا يقولون دياوين وديانير، ويجمع الآية آيات على جمع السلامة، وآيا على أنها من القبيل الذي سبق جمعه واحدة فصار بين توحيده وجمعه الهاء التي في واحده. وقد زعم قوم أن معنى الآية: الجماعة، وهذا قول رابع لأنه خطأ، والبيان عنه أصل اشتقاق الآية بما بين
nindex.php?page=showalam&ids=14248الخليل وسيبويه والأخفش فيه من الاختلاف في تقدير مدته وتصريفه، واستيعاب بابه يأتي في كتابنا المسمى البيان الموجز، عن علوم القرآن المعجز إن شاء الله عز وجل.
وقوله عليه السلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=653202وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإن الحرج أصله في كلام العرب:
[ ص: 12 ] الضيق، ومنه قيل للطائفة من الشجر الملتف المتضايق: حرجة، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=17131مقاتل بن سليمان يتأول ما جاء في القرآن من ذكر الحرج أنه الشك، وهذه يرجع إلى ما وصفناه من معنى الضيق، لأن الشاك يضيق صدره، ويخالف العالم بالشيء المثلج صدره بما علمه في راحة اليقين، واتساع الصدر وانفساحه وتعريه من ازدحام الظنون واعتراض الشكوك التي تضيقه، وقد زعم بعض أهل الاشتقاق أن الذي يتخذه الركب من العيدان والخشب لرحالهم يقال لها حرجوج، لتضايقه واشتباكه ويجمع حراج، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذو الرمة: فسيرا فقد طال الوقوف ومله قلائص أمثال الحراجيج ضمر
ومنه قيل للشيء المحظور المضيق بالتحريم والمنع: حرج وقرأ بعض المتقدمين: " هذه أنعام وحرث حرج " مكان قراءة الجمهور حجر وحجر وهي كلها لغات معروفة في الحجر بمعنى الحرام لغتان الضم والكسر، وقد قرئ بهما جميعا، وقوله: حرث حجر أي حرام، وقوله:
ويقولون حجرا محجورا قال أهل التأويل: معناه حراما محرما، قال الشاعر:
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس
وقال آخر:
قالت وفيها حمقة وذعر عوذ بربي منكم وحجر
أي استعاذة تحرم عليكم ما أخافه من مكروهكم، والحجر أيضا: العقل، والحجى، ومنه قول الله عز وجل:
هل في ذلك قسم لذي حجر أي عقل يمنعه من السفه والخرق، ومنه حجر الحاكم على السفيه، هو من التضييق والمنع والتحريم، والمصدر منه مفتوح، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي بال في المسجد ثم سمعه يقول:
nindex.php?page=hadith&LINKID=662507 "اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا "لقد تحجرت واسعا" أي ضيقت ما وسعه الله عز ذكره وحظرت ما فسح فيه.
والحجر ديار
ثمود، وحجر الكعبة مكسوران، وحجر اسم الرجل مضموم الحاء ساكن الجيم، كما قال
عبيد بن الأبرص: هلا على حجر بن أم قطام تبكي لا علينا
وهر تصيد قلوب الرجال وأفلت منها nindex.php?page=showalam&ids=13ابن عمرو حجر
كما قال
طرفة: أيها الفتيان في مجلسنا جردوا منها واردا وشقر
والكلام شقر بالإسكان مثل حمر وصفر، وحجر
اليمامة مفتوح قال الشاعر:
فلولا الريح أسمع من بحجر صليل البيض تقرع بالذكور
وحجر الإنسان فيه لغتان: الفتح والكسر.
ومثل حرج وحجر، صاعقة وصاقعة، وجذبته جذبا وجبذته جبذا، في نظائر لما
[ ص: 13 ] وصفنا كثيرة، وأما
حاجز فموضع معروف، قال
الأعشى: شاقك من قتلة أطلالها فالشط فالقف إلى حاجر
وخص بني إسرائيل بهذا لما مضت فيهم من الأعاجيب، كما خص البحر بما فيه من العجائب، وأرخص في التحدث عنهم مع اتقاء الحرج بالكذب فيه، وقوله: ولا حرج، يتجه فيه تأويلان، إحداهما: أن يكون خبرا محضا في معناه ولفظه، كأنه لما ذكر بني إسرائيل وكانت فيهم أعاجيب وكان كثير من الناس ينبو سمعه عنها، فيكون هذا مقطعة لمن عنده علم منها أن يحدث الناس بها، فربما أدى هذا إلى دروس الحكمة، وانقطاع مواد الفائدة، وانسداد طريق إعمال الفكرة، وإغلاق أبواب الاتعاظ والعبرة، وكأنه قال: ليس في تحدثكم بما علمتموه من ذلك حرج.
والتأويل الثاني: أن يكون المعنى في هذا: النهي فكأنه قال: ولا تحرجوا بأن تتحدثوا بما قد تبين لكم الكذب فيه محققين له أو غارين أحدا به، فهذا اللفظ على هذا الوجه لفظه لفظ الخبر وفائدته النهي من جهة المعنى، ولفظ النهي لا يأتي إلا متعلقا بفعل مستقبل، فإذا قيل: ولا تحرجوا فهو صريح اللفظ بالنهي، فإذا قيل: ولا حرج جاز أن يكون خبرا محضا معنى ولفظا، وجاز أن يكون لفظه لفظ الخبر في بنيته، ومعناه النهي لقصد المخاطب وإرادته، دون صورة اللفظ وصيغته، ونصب الحرج في هذا الموضع هو الوجه على ما يقتضيه المعنى الذي يسميه البصريون النفي ويسميه الكوفيون التبرئة، وهو على قول
nindex.php?page=showalam&ids=14248الخليل مبني يضارع المعرب، وعلى قول
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه معرب يضارع المبني، ولو رفع ونون لكان وجها قد عرف واستعمل كما قال الشاعر:
من صد عن نيرانها فأنا ابن قيس لا براح
وقولهم:
لا حول ولا قوة إلا بالله، للعرب فيه خمسة مذاهب: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا حول ولا قوة، ولا حول ولا قوة، ولا حول ولا قوة، ولا حول ولا قوة.
وقال الله تعالى:
فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج هذه قراءة شيبة
ونافع وعاصم وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي في آخرين، وقرئ: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال، وهي قراءة
أبي جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي، وقرئ: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال " وهي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=16456وابن كثير وأبي عمرو وعدد غيرهم، وقد قرأ بعضهم ولا جدال مثل دراك ومناع، رويت هذه القراءة عن
nindex.php?page=showalam&ids=23661عبد الله بن أبي إسحاق، واختلف في علل إعراب هذه القراءات، وفي علة فرق الإعراب بين بعضهما وبعض اختلاف يطول شرحه، وليس هذا موضع ذكره، ونحن مستقصو القول فيه عند انتهائنا إليه من كتابنا المسمى البيان الموجز في علم القرآن المعجز وفي كتابنا في القراءات، وكتابنا في عللها وتفصيل وجوهها.
وقوله:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650107 "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" قد أتت الرواية بهذا اللفظ وما
[ ص: 14 ] يقاربه من جهات كثيرة، وقيل: إنه على عمومه، وجاء في بعض هذه الأخبار:
nindex.php?page=hadith&LINKID=930821من كذب علي متعمدا ليضل به الناس، وروي أنه ورد عند قصة خاصة في رجل ادعى عند قوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسلهم إليه ليزوجوه، حدثنا
عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي: قال: حدثنا
يحيى بن عبد الحميد الحماقي، قال: حدثنا
علي بن منير، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16209صالح بن حيان، عن
ابن بريدة، عن أبيه، قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=76316أتى رجل إلى قوم في جانب المدينة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أحكم فيكم برأيي في كذا وكذا، وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه، ثم ذهب حتى نزل على المرأة فبعث القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كذب عدو الله" ثم أرسل رجلا فقال: "إن أنت وجدته حيا فاقتله، وإن وجدته ميتا فحرقه"، فانطلق فوجده قد لدغ فمات فحرقه، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"
حدثنا
الحسن بن محمد بن شعبة الأنصاري، قال: حدثنا
إسماعيل بن حيان الواسطي، قال: حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15925زكريا بن عدي، قال: حدثنا
عدي بن مسهر، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16209صالح بن حيان، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16423عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650107 "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" كان حي من
المدينة على ميل أو ميلين فأتاهم رجل عليه حلة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم نساءكم وأموالكم بما أرى، وكان قد خطب امرأة منهم فأبوا أن يزوجوه، قال: فأرسلوا رسولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك أمرت هذا أن يحكم في نسائنا وأموالنا بما يرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب عدو الله" ثم قال لرجل: اذهب فإن وجدته حيا فاضرب عنقه، وإن وجدته قد مات فأحرقه بالنار، وما أراك تجده حيا، قال: فجاء فوجدته قد لدغته حية أو أفعى فمات، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650107 "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" حدثنا
محمد بن هارون أبو حامد الحضرمي، قال: حدثنا
السري بن مزيد الخراساني، قال: حدثنا
أبو جعفر محمد بن علي الفزاري، قال: حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=18913داود بن الزبرقان، قال: أخبرني
nindex.php?page=showalam&ids=16571عطاء بن السائب، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16414عبد الله بن الزبير، أنه قال يوما لأصحابه: أتدرون ما
تأويل هذا الحديث: nindex.php?page=hadith&LINKID=650107 "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"؟ قال:
رجل عشق امرأة فأتى أهلها مساء، فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثني إليكم أن أتضيف في أي بيوتكم شئت، قال: فكان ينتظر بيتوتة إلى المساء، قال: فأتى رجل منهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا أتانا يزعم أنك أخبرته أن يبيت في أي بيوتنا شاء، فقال: كذب، يا فلان انطلق معه فإن أمكنك الله منه فاضرب عنقه وأحرقه بالنار، ولا أراك إلا قد نعيته، فلما خرج الرسول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعوه، فلما جاء قال: إني قد كنت أمرتك أن تضرب عنقه وأن تحرقه بالنار، فإن أمكنك الله منه فاضرب عنقه ولا تحرقه بالنار، فإن لا يعذب بالنار إلا رب النار ولا أراك إلا قد كفيته، فجاءت السماء [ ص: 15 ] فصبت فخرج ليتوضأ فلسعته أفعى، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: هو في النار، وقوله فليتبوأ أي فليوطن نفسه ويعلم أنه تبوأ مقعده من النار أي تكون النار مبوأ له، كما قال الله:
بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق أي جعلناها منزلا لهم، قال
ابن هرمة: وبوئت في صميم معشرها فتم في قومها مبوؤها
وقال بعض
بكر بن وائل يخاطب
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق: لقد بوأتك الدار بكر بن وائل وقرت لك الأحشاء إذ أنت محرم
وقول الله تعالى:
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا من هذا الباب، وكذلك قرأ جمهور أهل
الحجاز والشام والبصرة والكوفة، وقرأ عدد من الكوفيين منهم
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي: لنثوينهم من الثواء، كما قال
الحارث بن حلزة: آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء
وفي تصريف الفعل من هذا لغتان يقال: ثوى يثوي وأثوى يثوي، ويروى بيت
الأعشى على وجهين:
أثوى وقصر ليلة ليزودا فحنى وأخلف من قتيلة موعدا
ويروى أثوى على الوجه الرباعي، ويروى أثوى بلفظ الاستفهام على أنه ثلاثي، ولو قيل ثوى من غير تقديم على أن يكون الجزء الأول من البيت مخروما لكان ذلك صوابا.