صفحة جزء
المجلس الثاني والخمسون

مكافأة قيمة على تصحيح كلمة من حديث شريف

حدثنا محمد بن محمود بن أبي الأزهر الخزاعي ، قال : حدثنا الزبير بن بكار ، قال : حدثني النضر بن شميل ، قال : دخلت على أمير المؤمنين المأمون بمرو ، وعلي أطمار مترعبلة ، فقال : لي : يا نضر أتدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق ، قال : لا ، ولكنك تتقشف ، قال : فتجاذبنا الحديث ، فقال المأمون : حدثني هشيم بن بشير ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز " . قلت : صدق قول أمير المؤمنين عن هشيم ، حدثني عوف الأعرابي ، عن [ ص: 383 ] الحسن ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز " فكان المأمون متكئ فاستوى جالسا ، وقال : السداد لحن يا نضر ؟ قلت : نعم ها هنا ، وإنما لحن هشيم وكان لحانا ، فقال : ما الفرق بينهما ، قلت : السداد : القصد في السبيل ، والسداد : البلغة وكل ما سددت به شيئا فهو سداد ، قال : أفتعرف العرب ذلك ، قلت : نعم ، هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان يقول :


أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر

فأطرق المأمون مليا ثم ، قال : قبح الله من لا أدب له ، ثم قال : أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب ، قلت : قول ابن بيض في الحكم بن مروان :


تقول لي والعيون هاجعة     أقم علينا يوما فلم أقم
أي الوجوه انتجعت قلت لها :     لأي وجه إلا إلى الحكم
متى يقل حاجبا سرادقه     هذا ابن بيض بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت قبل مقتبلا     هيهات أدخل أعطني سلمي

قال القاضي : قوله : أسلمت مقتبلا ، معناه أسلفت وأخذت قبل قبيلا يعني كفيلا ، ومن السلف من كره الرهن والقبيل في السلم ، ومنهم من أجازه ، وقال : استوثق من حقه ، فقال المأمون : لله درك ! فكأنما شق لك عن قلبي ، أنشدني أنصف بيت قالته العرب ، قلت : قول ابن أبي عروبة المديني يا أمير المؤمنين :


إني وإن كان ابن عمي عاتبا     لمزاحم من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان امرأ     مترجرجا في أرضه وسمائه
وأكون والي سره وأصونه     حتى يحيز إلي وقت أدائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه     قرنت صحيحنا إلى جربائه
وإذا أتى من وجهه بطريفة     لم أطلع فيما وراء خبائه
وإذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل     يا ليت أن علي حسن روائه

فقال : أحسنت يا نضر ، أنشدني الآن أقنع بيت للعرب ، فأنشدته قول ابن عبدل :


إني امرؤ لم أزل وذاك     من الله أديبا أعلم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي الد     ار وإن كنت نازحا طربا
لا أجتوي خلة الصديق ولا     أتبع نفسي شيئا إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من الر     زق بنفسي وأجمل الطلبا

[ ص: 384 ]

وأحلب الثرة الصفي ولا     أجهد أخلاف غريب حلبا

قال ابن أبي الأزهر : ويروى الضفي ، قال أبو بكر : وسمعت بندارا الكرخي ، يقول : لا أحب الضفي بالضاد فيما يرويه الناس ، لأن الضفي يكون للملك دون السوقة ، والصفي بالصاد أبلغ في المعنى لأنها الغزيرة اللبن .

قال القاضي رحمه الله : والذي حكي في هذا عن بندار قريب ، وجائز أن يكون الصفي بمعنى الشيء الذي يختار ويصطفى ، وإن كان مصطفيه غير ملك ، لأن صفي المال إنما وسم بهذه السمة لأن الملك اصطفاه لنفسه ، وجائز أن يصطفيه الملك ثم يصير لبعض السوقة ، وجائز أن يقال للشيء الكريم صفي بمعنى أنه لنفاسته مما يصطفيه الملوك ويصلح أن يصطفوه ، فيعبر عنه بذلك قبل أن يصطفى ، كما قال الله عز وجل : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا فسماهم شهداء قبل أن يشهدوا ، وكقوله : إني أراني أعصر خمرا وكانت الملوك قبل الإسلام تصطفي من الغنيمة علقا منها كريما أو غرة مشتراة لأنفسها فيأخذه دون الجيش ، وفي ذلك يقول الشاعر :


لك المرباع منها والصفايا     وحكمك والنشيطة والفضول

يعني بالمرباع : ربع الغنيمة ، والصفايا : جمع صفية ، وهي ما ذكرنا ، وقوله : وحكمك أي ما تتحكم فيه وتحكم به ، والنشيطة ما تنشطه من المغنم فتأخذه ، والفضول ما فضل عن القسمة أو كان القسم لا يحتمله ، ثم جعل الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فيما غنمه المسلمون من المشركين الخمس ولذوي القربى من رهطه ومن سمى معهم ، فحط ما جعل له عن قدر ما كانت الملوك تأخذه قبله ، تطييبا لنفوس أصحابه ، وتوكيدا لما نزهه عن أخذ الأجر على ما جاء به ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما لي في هذا المال إلا الخمس ، وهو مردود فيكم " ، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ منه حاجته لمؤونته ومؤونة أهله ، ويصرف ما بقي مما خلص له وهو خمس الخمس في الكراع والسلاح وما كان تأييدا للدين وعتادا لنوائب المسلمين ، وكان له صلى الله عليه وسلم الصفي أيضا ، فكان يأخذه من أصل الغنيمة ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون ، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم ، واصطفى منهم جويرية ابنة الحارث .

رجعنا إلى تمام الشعر ، شعر ابن عبدل وبقية الخبر المتضمن له :


إني رأيت الفتى الكريم إذا     رغبته في صنيعة رغبا
والعبد لا يطلب العلا ولا     يعطيك شيئا إلا إذا ضربا
ولم أجد عروة الخلائق إلا الد     ين لما اختبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما     شد بعنس رحلا ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والر     حل ومن لا يزال مغتربا

[ ص: 385 ] قال : أحسنت يا نضر ، أفعندك ضد هذا ؟ قلت : نعم ، أحسن منه ، قال : هاته ، فأنشدته :


يد المعروف غنم حيث كانت     تحملها كفور أو شكور

فقال : أحسنت يا نضر ، وأخذ القرطاس فكتب شيئا لا أدري ما هو ، ثم قال : كيف تقول : أفعل من التراب ؟ قلت : أترب ، قال : الطين ؟ قلت : طن ، قال : فالكتاب ماذا ؟ قلت : مترب مطين ، قال : هذه أحسن من الأولى ، قال : فكتب لي بخمسين ألف درهم ، ثم أمر الخادم أن يوصله إلى الفضل بن سهل فمضيت معه ، فلما قرأ الكتاب قال : يا نضر ! لحنت أمير المؤمنين ؟ قلت : كلا ، ولكن هشيما لحانة ، فأمر لي بثلاثين ألفا ، فخرجت إلى منزلي بثمانين ألفا وقال لي الفضل : يا نضر ! حدثني عن الخليل بن أحمد ، قلت : حدثني الخليل بن أحمد ، قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم ما رأيت ، وكان على سطح أو سطيح ، فلما رأيناه أشرنا إليه بالسلام ، فقال : استووا ، فلما ندر ما قال ، فقال لنا شيخ عنده : يقول لكم : ارتفعوا ، فقال الخليل بن أحمد : هذا من قول الله عز وجل : ثم استوى إلى السماء وهي دخان ، ثم ارتفع ثم قال : هل لكم في خبز فطير ولبن هجير وماء نمير ، فلما فارقناه ، قال : سلاما ، قلنا : فسر قولك هذا ، فقال : متاركة لا خير ولا شر ، فقال الخليل : هذا مثل قول الله جل وعز وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما أي متاركة .

قال القاضي رحمه الله : قوله في الخبر أطمار مترعبلة ، يريد ثيابا متقطعة ، يقال : رعبلت الثوب وغيره إذا قطعته ، قال الشاعر :


يا من رأى ضربا يرعبل بعضه     بعضا كمعمعة الآباء المحرق

الآباء : القصب ، قال القاضي : خبر النضر بن شميل هذا قد كتبناه من طرق شتى متقاربة الألفاظ والمعاني ، وفيه زيادة ليست في غيره ، والأشعار التي أنشدها النضر المأمون فيه لما استنشده غير ما في سائر ما كتبناه من قبل الرواية المشهورة ، وهي بليغة حسنة ، فرأيت إحضار هذه الرواية ليتكامل للناظر الفائدة في كتابنا ، وإن تكرر بعض ألفاظ متن الخبر .

الرواية الأخرى

حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم الخراساني ، قال : أحمد بن عبيد بن ناصح ، قال : أبو زيد ، قال : النضر بن شميل : قال : دخلت على المأمون ، وعلي أطمار أخلاق غسيل ، فقال لي : يا نضر ! تدخل علي في مثل هذه الأخلاق ؟ ثم قال : نحمل منك هذا على التقشف ، ثم تجاذبنا الحديث ، فقال : المأمون : حدثنا هشيم بن بشير ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها وكمالها كان فيه سداد من عوز " ، قال : فقلت : يا أمير المؤمنين : أخبرني عوف الأعرابي ، عن الحسن ، عن علي بن أبي طالب عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تزوج الرجل [ ص: 386 ] المرأة لدينها وجمالها وكمالها كان فيه سداد من عوز " وكان متكئا ، فجلس واستوى ، وقال : يا نضر ! السداد في هذا الموضع لحن ؟ قلت : نعم ، يا أمير المؤمنين ، وإنما لحن هشيم ، فقال لي : ما الفرق بين السداد والسداد ، قلت : السداد : القصد في الدين والسبيل ، والسداد : البلغة في الشيء أسد به الشيء ، فقال : هل تعرف ذلك العرب ؟ قلت : نعم ، هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان ، يقول :


أضاعوني وأي فتى أضاعوا     ليوم كريهة وسداد ثغر
كأني لم أكن فيهم وسيطا     ولم تك نسبتي في آل عمرو

فأطرق طويلا ثم رفع رأسه ، وقال : قبح الله من لا أدب له ، ثم تجاذبا الحديث ثم قال : قبح الله اللحن ، قلت : ما لحن أمير المؤمنين ، وإنما لحن هشيم ، وكان هشيم لحانة ، فتبع أمير المؤمنين ألفاظه ، قال : وكيف روايتك الشعر ، قلت : قد رويت الكثير منه ، قال : فأنشدني في أحسن ما قالت العرب في الحكم ، فأنشدته :


إذا كان دوني من بليت بجهله     أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل
وإن كان مثلي في محلي من العلا     هويت إذا حلما وصفحا عن المثل
وإن كنت أدنى منه في الفضل والحجا     فإن له حق التقدم والفضل

قال : ما أحسن ما قال ! فأنشدني أحسن ما قالت العرب في الحزم ، فأنشدته :


على كل حال فاجعل الحزم عدة     لما أنت باغيه وعونا على الدهر
فإن نلت أمرا نلته عن عزيمة     وإن قصرت عنه الحقوق ففي عذر

فقال : ما أحسن ما قال ! فأنشدني ما قالت العرب في إصلاح العدو ، حتى يكون صديقا فأنشدته :


وذي غيلة سالمته فقهرته     فأوقرته مني بعبء التجمل
ومن لا يدافع سيئات عدوه     بإحسانه لم يأخذ الطول من عل
ولم أر في الأشياء أسرع مهلكا     لضغن قديم من واد معجل

قال : ما أحسن ما قال ! فأنشدني أحسن ما قالت العرب في السكوت ، فأنشدته :


إني ليهجرني الصديق تجنبا     فأريه أن لهجره أسبابا
وأراه إن عاقبته أغريته     فيكون تركي للعتاب عتابا
وإذا بليت بجاهل متحكم     يجد المحال من الأمور صوابا
أوليته مني السكوت وربما     كان السكوت عن الجواب جوابا

ثم قال : ما ما لك ؟ قلت : أريضة بمرو الروذ أتمززها ، قال : أفلا نفيدك مالا ؟ قلت : إن رأى أمير المؤمنين ذلك ، فدعا بدواة وقرطاس وكتب ، ولا أدري ما كتب ، ثم قال : إذا أردت أن تترب الكتاب كيف تأمر ، قلت : يا غلام أترب الكتاب ، قال : فهو ماذا ؟ قلت :

[ ص: 387 ] مترب ، قال : فمن السحاة ، قلت : يا غلام اسح الكتاب ، قال : فهو ماذا ؟ قلت : كتاب مسحى ، قال : الطين ، قلت : يا غلام طن الكتاب ، وأطن الكتاب ، قال : فهو ماذا ؟ قلت : مطين ومطان ، قال : يا غلام أترب واسح وطن الكتاب ، ثم قال امض إلى الفضل بن سهل بهذا الكتاب ، فمضيت فأوصلته ، فقال : بم استأهلت أن يأمر لك بخمسين ألف درهم ؟ فحدثته الحديث على جهته ، فقال : لحنت أمير المؤمنين ؟ قلت : ما لحن ، وإنما لحن هشيم ، فتبع أمير المؤمنين ألفاظه ، فأمر لي بأربعين ألف أخرى من عنده ، وانصرفت بكلمة أفادوها بتسعين ألف درهم .

تعقيب للمؤلف بشرح حال العلماء في زمنه

قال القاضي رحمه الله : قد كان من مضى من العلماء وأهل الفضل من الأدباء ، تمسهم الفاقة ، وتنالهم العسرة والإضاقة ، ثم يصلون من الخلفاء ، والسادة الرؤساء ، بيسير ما عندهم من العلم والحكمة ، والأدب والمعرفة ، إلى الحظ الخطير ، والوفر الكبير ، والنضر بن شميل ممن اتفق له ذلك بعد شدة عظيمة لحقته ، وفاقة مجحفة لزمته ، وكان أحد الأعلام ممن أخذ عن الخليل علم العربية ، وله من رواية السنن والآثار ، والأحاديث والأخبار ، منزلته ولما أضر به إيطان البصرة ، ونبت بها عنه المعيشة ، شرع في الظعن عنها ، فذكر فيما روي لنا عنه من طريق لم يحضرني في هذا الوقت ، ولعلي أورده إذا عثرت عليه بعد ، أنه تبعه سبع مائة رجل أو نحوهم من أصحابه يشيعونه ، وجعلوا يبكون توجعا لمفارقته إياهم ، وأظهر لهم نحو هذا من استيحاشه وكراهته النأي عليها عنهم ، وقال : لو كان لي في كل يوم ربع من الباقلى أتقوته لما ظعنت .

قال الراوي : فعجبت من أنه لم يكن في هذا الجمع الكثير من المتفجعين لفقده من يكفيه هذا القدر ، ويقوم له به ، ثم إنه أتى خراسان فاستغنى وأثرى بما أسدى إليه المأمون لما وصل إليه وسمع كلامه ، ووقف على أدبه ، ولقد ظهر من المأمون في هذا الخبر من النبل والإنصاف لأهل العلم والتواضع لمن تجيء له من قبله فائدة ، وظهر له منه علم ومعرفة ، ما شكر الله تعالى لما أراده به ، ألا ترون إلى ما اقترحه من الأشعار في المعاني التي ذكر ، وإلى نقده إياها ، وإلى نقد استحسانه لها ، ولقد كان في الشعراء إذا أنشده النقاد ، والشعراء إذا أنشدوه كان من الأجواد ، ولقد روي لنا عنه من نقد الشعر وتبريزه في التمييز بين جيده ورديئه ، وإبرازه على أهل هذه الصناعة فيه ، وعلوه بالحجة عليهم عند مخالفتهم إياه ما يطول ذكره ، وسنأتي بما يحضرنا منه في مستأنف مجالسنا هذه .

التالي السابق


الخدمات العلمية