صفحة جزء
تعليق المؤلف على خطبة عمر

قال القاضي أبو الفرج : قد ضمن عمر رضي الله عنه خطبته هذه من الحكم التي تتقبلها العقول ويشهد بصحتها المعقول ما فيه أكثر النفع لمن استمع إليه ، وأجرى أمره في دينه عليه ، وذكر أنه يحمل الناس في موالاتهم ومعاداتهم على ما أبدوه ويكلهم إلى ربهم عز وجل فيما أخفوه ، ونصح الناس

في ما أمرهم به من أن يريدوا الله تعالى بتلاوة كتابه كما كان السلف الذين نزل الوحي بينهم ، وأخبر أنه سيأتي من يريد بتلاوته الناس وحطام الدنيا ، ويأتي بالتلاوة للسمعة والرياء ، وذكر ما لم يكن عند أحد ممن سمعه رد له ولا مرية [ ص: 428 ] فيه من إنفاذه عماله على الناس للعدل فيهم وأداء حقوقهم إليهم ، وأنه حكم بالقصاص ممن جنى منهم ، وبإنصاف مظلومهم من ظالمهم ، وها نحن في زمان الجور فيه ظاهر غامر ، والظالم قاهر ، والمظلوم حائر؛ وأما تلاوة القرآن في زماننا فإن من يتلوه فيه تقربا إلى ربه واعتبارا به ، وتفكرا في حكمه ، وتدبرا في آياته ، وتفقها في دينه ، فإنه في قلته ومهانته وذلته على حد عظيم في منزلته ، وهو بمنزلة الكبريت الأحمر في عزته ، وبمنزلة الشامة البيضاء في الثور الأسود ، إذا نظر في أمره في عدد أهله ، ومعظم من يتلوه في وقتنا إما مباه لأمثاله مفاخر ، أو مبار لأشكاله مكاثر ، أو مستميحا للحطام والسحت الحرام من ذوي البغي والضلالة ، واللهو والبطالة ، بالتغني لهم به على الوجه الذي زجر الله تعالى عنه ورسوله من ألحان اللاهين وترجيع اللعابين ، قد جعل ذلك له طعمة واتخذه لنفسه معيشة ، ودرت عليه الهبات ، والعطايا والصلات ، من المغرورين ، المسحورين منهم والمفتونين ، المطبوع على قلوبهم ، وتعلقوا عند العامة بادعاء التأويل في الخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : زينوا القرآن بأصواتكم ، وبقوله : ليس منا من لم يتغن بالقرآن ، فحملوه على غير وجهه ووجهوه إلى خلاف ما قصد له به ، فكانوا في تلاوتهم للقرآن من الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يتعجلونه ولا يتأجلونه ، وضلوا عن سواء السبيل في ما يتأولونه .

وقد أتينا من الكلام في هذا المعنى بما ينتفع به الناظر فيه ، إذا وقف على معانيه ، ناصحا لنفسه ، مشفقا من خشية ربه ، في كتابنا المسمى : التذكير والتحذير ، وفي بعض ما مضى من مجالس كتابنا هذا وفي غيرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية