صفحة جزء
القاضي شريح يتزوج زينب التميمية

حدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا عبد الله بن الضحاك قال حدثنا الهيثم بن عدي عن الشعبي قال ، قال لنا شريح : يا شعبي عليكم بنساء بني تميم فإنهن النساء ، قلنا : وكيف ذلك يا أبا أمية؟ قال : رجعت يوما من جنازة مظهرا فمررت بخباء فإذا بعجوز معها جارية رؤد ، فاستسقيت فقالت : اللبن أعجب إليك أم الماء أم النبيذ؟ قال قلت : اللبن أعجب إلي . قالت : يا بنية اسقيه لبنا فإني أظنه غريبا ، فسقتني ، فلما شربت قلت : من هذه الجارية؟ قالت : هذه بنتي زينب بنت حدير إحدى نساء بني تميم ثم من بني حنظلة ثم من بني طهية ، قلت : أتزوجينيها ، قالت : نعم إن كنت كفؤنا ، قال : فانصرفت إلى منزلي ، فامتنعت من القائلة ، فلما صليت الظهر وجهت إلى إخواني الثقات : مسروق بن الأجدع والأسود بن يزيد فصليت العصر ثم رحت إلى عمها وهو في مسجده ، فلما رآني تنحى لي عن مجلسه ، فقلت : أنت أحق بمجلسك ، ونحن طالبو حاجة ، فقال : مرحبا بك يا أبا أمية ، ما حاجتك؟ قلت : إني ذكرت زينب بنت أخيك ،

[ ص: 568 ] فقال : والله ما بها عنك رغبة ولا بك عنها مقصر ، قال : وتكلمت فزوجني ثم انصرفت فما وصلت إلى منزلي حتى ندمت وقلت : ماذا صنعت بنفسي ، فهممت أن أرسل إليها بطلاقها ، ثم قلت : لا أجمع بين حمقتين ، ولكني أضمها إلي ، فإن رأيت ما أحب حمدت الله تعالى ، وإن تكن الأخرى طلقتها . فأرسلت إليها بصداقها وكرامتها ، فلما أهديت إلي وقام النساء عنها قلت : يا هذه إن من السنة إذا أهديت المرأة إلى زوجها أن تصلي ركعتين خلفه ويسألا الله عز وجل البركة ، فقمت أصلي فإذا هي خلفي ، فلما فرغت رجعت إلى مكانها ، ومددت يدي فقالت : على رسلك ، فقلت : إحداهن ورب الكعبة ، فقالت : الحمد لله وصلى الله على محمد وآله ، أما بعد ، فإني امرأة غريبة ، ولا والله ما ركبت مركبا هو أصعب علي من هذا ، وأنت رجل لا أعرف أخلاقك ، فخبرني بما تحب آته وبما تكره أزدجر عنه ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولك . قال فقلت : الحمد لله وصلى الله على محمد وآله ، أما بعد فقد قدمت خير مقدم ، قدمت على أهل دار زوجك سيد رجالهم ، وأنت إن شاء الله سيدة نسائهم ، أحب كذا وأكره كذا ، قالت : فحدثني عن أختانك ، أتحب أن يزوروك؟ قال قلت : إني رجل قاض وأكره أن يملوني ، وأكره أن ينقطعوا عني ، قال : فأقمت معها سنة أنا كل يوم أشد سرورا مني باليوم الذي مضى ، فرجعت يوما من مجلس القضاء فإذا عجوز تأمر وتنهى في منزلي ، فقلت : من هذه يا زينب؟ قالت : هذه ختنتك ، هذه أمي ، قلت : كيف حالك يا هذه؟ قالت : كيف حالك يا أبا أمية ، وكيف رأيت أهلك؟ قال قلت : كل الخير ، قالت : إن المرأة لا تكون أسوأ خلقا منها في حالتين : إذا ولدت غلاما وإذا حظيت عند زوجها ، فإن رابك من أهلك ريب فالسوط السوط ، قلت : أشهد أنها ابنتك ، قد كفيتني الرياضة وأحسنت الأدب . فكانت تجيئني في كل حول مرة فتوصي بهذه الوصية ثم تنصرف ، فأقمت معها عشرين سنة ما غضبت عليها يوما ولا ليلة ، إلا يوما وكنت لها ظالما وذلك أني ركعت ركعتي الفجر وأبصرت عقربا فعجلت عن قتلها فكفأت عليها الإناء وبادرت إلى الصلاة وقلت : يا زينب إياك والإناء ، فعجلت إليه فحركته فضربتها العقرب ، فلو رأيتني يا شعبي وأنا أمص إصبعيها وأقرأ عليهما المعوذتين ، وكان لي جار يقال له قيس بن جرير لا يزال يقرع مريئته ، فعند ذلك أقول :


رأيت رجالا يضربون نساءهم فشلت يميني يوم أضرب زينبا

وأنا الذي أقول :


إذا زينب زارها أهلها     حشدت وأكرمت زوارها
وإن هي زارتهم زرتها     وإن لم تكن لي هوى دارها

يا شعبي ، فعليك بنساء بني تميم فإنهن النساء .

[ ص: 569 ] شروح وتعليقات على خبر شريح

قال القاضي : قد روينا خبر شريح في نكاحه زينب من غير طريق ، عثرنا على هذا منها فأثبتناه ، وهو كاف من غيره . وفي بعض ما رويناه ، بيت يلي قوله :


رأيت رجالا يضربون نساءهم     فشلت يميني يوم أضرب زينبا

وهو :


وزينب شمس والنساء كواكب     إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا

قال القاضي : وقد أغار شريح في هذا البيت على قول النابغة في مدح النعمان بن المنذر :


ألم تر أن الله أعطاك سورة     ترى كل ملك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب     إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

قال القاضي : قوله في الخبر جارية رؤد يريد وصفها بأنها في اقتبال شبابها كما قال الشاعر :


خمصانة قلق موشحها     رؤد الشباب غلا بها عظم

وقوله : أهديت إلى زوجها فيه لغتان : هديت العروس إلى زوجها هداء وأهديت إهداء ، وطرح الألف أكثر ، فكأنه من الهداية لا من الهدية ، وهو أشبه وأليق بالمعنى ، ومن الهداء قول زهير :


فإن تكن النساء مخبآت     فحق لكل محصنة هداء

وأما قول زينب لشريح هذه ختنتك فقد تكلم في هذا قوم من الفقهاء واللغويين ، وحاجة الفقهاء إلى معرفة ذلك بينة ، وإذ قد يوصي المرء لأصهار فلان وأختانه؛ وقد يحلف لا يكلم أصهار فلان وأختانه ، فقال قوم : يكون الأختان من قبل الرجل والأصهار من قبل المرأة . وذهب قوم في هذا إلى التداخل والاشتراك وهذا أصح المذهبين عندي ، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .


محمد النبي أخي وصهري     أحب الناس كلهم إليا

والنبي أبو زوجته؛ ويدلك على هذا قولهم : قد أصهر فلان إلى فلان ، وبين القوم مصاهرة وصهر ، فجرى هذا مجرى النسب والمناسبة في إجرائهما على الطرفين والعبارة بهما عن الجهتين ، وقد قال الله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وقد جاء عن أهل التأويل في قول الله تعالى : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة أقوال : قال بعضهم : هم الأصهار ، وقال بعضهم : هم الأختان ، وظاهر هذا العمل على اختلاف المعنيين بحسب ما ذهب إليه من قدمنا الحكاية عنه ، وقد قال : وجائز أن يكون عبر [ ص: 570 ] باللفظين عن معنى واحد ، وقد قال بعضهم : الحفدة الخدم ، قال الشاعر :


حفد الولائد حولهن وأسلمت     بأكفهن أزمة الأجمال

وقال رؤبة يخاطب أباه :


إن بنيك لكرام نجده     ولو دعوت لأتوك حفده

أي سراعا إلى معاونتك واتباع أمرك ، ومن هذا قولهم : وإليك نسعى ونحفد أي نجد في عبادتك ونسعى في طاعتك .

التالي السابق


الخدمات العلمية