المجلس السابع والسبعون
خطبة عمر في الجابية واستجابته لدعوة قسطنطين
حدثنا
محمد بن أحمد بن إبراهيم بن إسحاق بن الحارث أبو النضر العقيلي قال حدثنا
أبو إسحاق طلحة بن عبد الله بن محمد الطلحي النديم قال حدثنا
أبو بكر أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي قال : سمعت
أبا عبيد الله محمد بن سليمان بن عطاء بن قيس يقول حدثني
أبي سليمان بن عطاء عن
مسلمة بن عبد الله الجهني عن عمه
أبي مشجعة بن ربعي قال : لما قدم
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الجابية لفرض الخراج ، وذلك بعد وقعة
اليرموك ، قال : فشهدته دعا بكرسي من كراسي الكنيسة فقام عليه فقال : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال : أيها الناس أكرموا الناس ،
إن خياركم أصحابي ، ألا ثم الذين يلونهم ، ألا ثم الذين يلونهم ، ألا ثم يظهر الكذب ويكثر الحلف حتى يحلف الرجل وإن لم يستحلف ، ويشهد وإن لم يستشهد ، ألا
فمن أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة . يد ربكم مع الجماعة ، ألا وإن الشيطان ذئب بني
آدم ، فهو مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ، ألا
لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له إلا كان الشيطان ثالثهما ، ألا ومن ساءته سيئاته وسرته حسناته فهو مؤمن . قمت فيكم بقدر ما قام النبي صلى الله عليه وسلم فينا .
ثم ارتحل حتى نزل
أذرعات ، وقد ولى على
الشام يزيد بن أبي سفيان ، فدعا بغدائه ، فلما فرغ من الثريد وضعت بين يديه قصعة أخرى ، فصاح وقال : ما هذا؟ فأرسل
يزيد إلى
معاوية ، وكان صاحب أمره ، فقال
معاوية : ما الذي أنكرت يا أمير المؤمنين؟ قال : ما بالي توضع بين يدي قصعة ثم ترفع وتوضع أخرى؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إنك هبطت أرضا كثيرة الأطعمة فخفت عليك وخامتها ، فأشر إلى أيها شئت حتى ألزمكه ، فأشار إلى الثريد ، فقال
قسطنطين لمعاوية : جاد ما خرجت منها .
فلما فرغ من غدائه قام
قسطنطين وهو صاحب
بصرى بين يديه فقال : يا أمير المؤمنين ، إن
أبا عبيدة قد فرض علي الخراج فاكتب لي به ، فأنكر
عمر ذلك وقال : ما فرض عليك؟ قال : فرض علي أربعة دراهم وعباءة على كل جلجلة يعني الجماجم فقال
عمر رضي الله عنه
nindex.php?page=showalam&ids=12077لأبي عبيدة : : ما يقول هذا؟ قال : كذب ، ولكني كنت صالحته على ما
[ ص: 571 ] ذكر ليستمتع به المسلمون في شتائهم هذا ، ثم تقدم أنت فتكون الذي يفرض عليهم الخراج ، فقال له
عمر : أبو عبيدة أصدق عندنا منك ، فقال
قسطنطين : صدق
أبو عبيدة وكذبت أنا ، قال : فويحك ، ما أردت بمقالتك؟ قال : أردت أن أخدعك ، ولكن افرض علي يا أمير المؤمنين أنت الآن ، قال : فجاثاه النبطي مجاثاة الخصم عامة النهار ، ففرض على الغني ثمانية وأربعين درهما ، وعلى الوسط أربعة وعشرين درهما ، وعلى المفلس المدقع اثني عشر ، وشرط عليهم
عمر أن يشاطرهم منازلهم وينزل فيها المسلمون ، وعلى أن لا يضربوا بناقوس ، ولا يرفعوا صليبا إلا في جوف كنيسة ، وعلى أن لا يحدثوا إلا ما في أيديهم ، وعلى أن لا يقروا خنزيرا بين أظهر المسلمين ، وعلى أن يقروا ضيفهم يوما وليلة ، وعلى أن يحملوا راجلهم من رستاق إلى رستاق ، وعلى أن يناصحوهم ولا يغشوهم ، وعلى أن لا يمالئوا عليهم عدوا ، فمن وفى لنا وفينا له ومنعناه مما نمنع منه نساءنا وأبناءنا ، ومن انتهك شيئا من ذلك استحللنا بذلك سفك دمه وسباء أهله وماله .
فقال له
قسطنطين : يا أمير المؤمنين اكتب لي به كتابا ، قال : نعم ، ثم ذكر
عمر فقال : إني أستثني عليك معرة الجيش ، فقال النبطي : لك ثنياك ، وقبح الله من أقال . فلما فرغ قال له
قسطنطين : يا أمير المؤمنين ، قم في الناس فأعلمهم كتابك لي ليتناهوا عن ظلمنا والفساد علينا ، فقام
عمر فخطب خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغ : من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له قال النبطي : إن الله عز وجل لا يضل أحدا ، فقال
عمر رضي الله عنه : ما يقول؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ، شيئا تكلم به ، فعاد
عمر في الخطبة ، ثم أعاد النبطي المقالة ، فقال : أخبروني ما يقول ، قالوا : إنه يقول إن الله لا يضل أحدا ، فقال
عمر : والذي نفسي بيده لئن عدت لأضربن الذي فيه عيناك ، ومضى
عمر في خطبته ، فلما فرغ قام
قسطنطين فقال : يا أمير المؤمنين ، لي إليك حاجة فاقضها لي ، فإن لي عليك حقا ، قال : وما حقك علينا؟ قال : إني أول من أقر لك بالصغار ، قال : وما حاجتك إن كان لك فيها منفعة فعلنا ، قال : تغدى عندي أنت وأصحابك ، قال : ويحك إن ذلك يضرك ، قال : ولكنها مكرمة وشرف أناله ، قال : فانطلق حتى نأتيك ، فانطلق فهيأ في كنيسة
بصرى ونجدها وهيأ فيها الأطعمة وقباب الخبيص وكانونا عليه المجمر ، فلما جاء
عمر وأصحابه نزلوا في بعض البيادر ، ثم خرج يمشي وتبعه الناس والنبطي بين يديه ، ثم بدا
nindex.php?page=showalam&ids=2لعمر فقال : لا يتبعني أحد ، ومضى هو والنبطي ، فلما أن دخل الكنيسة إذا هو بالستور والبسط وقباب الخبيص والمجمر ، فقال
عمر للنبطي : ويلك ، لو نظر من خلفي إلى ما هاهنا لفسدت علي قلوبهم ، اهتك ما أرى ، قال : يا أمير المؤمنين ، إني أحب أن ينظروا إلى نعمة الله علي ، قال : إن أردت أن نأكل طعامك فاصنع ما آمرك به ، فهتك الستور ونزع البسط وأخرج عنه المجمر ، ثم قال : اخرج إلى رحالنا فأتنا بأنطاع ، فأخذها
عمر فبسطها في الكنيسة ، ثم
[ ص: 572 ] عمد إلى ذلك الخبيص وما كان هيأ فعكس بعضه على بعض وقال : أعندك شيء آخر؟ قال : نعم عندنا بقل وشواء ، قال : إيتني به ، فأخذه فخلط الشواء بالخبيص بعضه على بعض وجعل يحمل بيديه ويجعله على الأنطاع .
قال طلحة فأخبرنا
أحمد بن معاوية قال : فأمليت هذا الحديث على رجل من أصحاب الحديث فزادني فيه ، قال فقال النبطي : يا أمير المؤمنين ، إن هذا الطعام لا يؤكل هكذا ، قال فقال
عمر : ويل لك ولأصحابك إذا جاء من يحسن يأكل هذا ، ثم قال : ادع الناس ، فجاءوا فجثوا على ركبهم وأقبلوا يأكلون ، فربما وقعت اللقمة من الخبيص في فم الرجل فيقول : إن هذا طعام ما رأيناه ، فيقول
عمر : ويلك أما تسمع؟ كيف لو رأوا ما رأيت؟!
فلما فرغوا قال النبطي
لمعاوية : إن الأحبار والرهبان قد اجتمعوا ، وهم يريدون أن ينظروا إلى أمير المؤمنين ، وإنما عليه أخلاق وسخة ، فهل لك أن تخدعه حتى ينزعها ويلبس ثيابا حتى يقضي جمعته ، فقال له
معاوية : أما أنا فلا أدخل في هذا بعد إذ نجوت منه أمس ، فقال له النبطي : يا أمير المؤمنين ، ثيابك قد اتسخت ، فإن رأيت أن تعطيناها حتى نغسلها ونرمها ، قال : نعم ، فغسل الثياب وتركها في الماء ، ثم هيأ له قميصا مرويا ورداء قصبيا فلما حضرت الجمعة قال له
عمر : إيتني بثيابي ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، ما جفت ، ونحن نعيرك ثوبين حتى تقضي جمعتك ، فقال : أرني ، فلما نظر إلى القميص قال : ويحك كأنما رفي هذا رفوا ، أغربهما عني وائتني بثيابي ، فجاء بها تقطر ، فجعل يتناولها ، وجعل النبطي يأخذ بطرف الثوب
وعمر بالطرف الآخر ويعصرها ، ثم دعا بكرسي من كراسي الكنيسة فقام عليه يخطب الناس ويمسح ثيابه ويمددها ، قال : فسأله أي شيء كانت ثيابه؟ قال : غزل كتان . قال : وجاءت الرهبان فقاموا وراء الناس وعليهم البرانس تبرق بريقا ، ومعهم عصي فيها تفاح الفضة ، ومعهم المواكب ، فلما نظروا إلى هيئته قالوا : أنتم الرهبان!! لا والله ، ولكن هذه الرهبانية ، ما أنتم عنده إلا ملوك .