صفحة جزء
تعليق على خبر أبي ذر

قال القاضي: في خبر أبي ذر هذا أنواع من الحكم، وفوائد من العلم والإنباء عن الأمور الخالية، وإخبار عن الأمور الماضية، وفيه اعتبار لأولي البصائر والعقول، وتنبيه لذوي التمييز والتحصيل، وقد روينا في كثير من فصوله روايات موافقة لألفاظه ومعانيه، وأخر مضارعة لما اشتمل عليه من الأغراض فيه، وروينا في بعض فصوله روايات مختلفة لظاهر ما تضمنه إلا أنها إذا تؤملت رجعت إلى التقارب؛ إذ اقتضت غلطا من بعض الرواة. فأما ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله وأخبر به فهو الحق الذي لا مرية فيه، ولا ريب في صحته والقطع على حقيقة مغيبه.

قال القاضي: وفي خبر أبي ذر ما دل على أن من الأنبياء من أوتي النبوة وأرسل إلى طائفة، ومنهم من كان نبيا غير مرسل إلى أحد. وقد قال الله تعالى ذكره: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: " ولا محدث " وقال: " إن منكم محدثين " وذكر عمر رضي الله عنه. ومن الدعاء المنتشر المستعمل الظاهر على ألسنة خاصة المسلمين وعامتهم: اللهم صل على ملائكتك المقربين وعلى أنبيائك والمرسلين، وظاهر هذا يقتضي الفصل بين الفريقين، وقد أحال هذا بعض المنتسبين إلى علم الكلام، ومن يدعي له فريق مفتون به مغرور بمخاريقه،

[ ص: 610 ] وأحال أيضا أن لا يختص أحد من الأنبياء بشيء من الشريعة مجدد على يده، مخالف في الصورة لما أتى به من قبله، وأن يقتصر به في الدلالة على صدقه وصحة نبوته بخبر نبي من الأنبياء بذلك وتعيينه عليه تعيينا لا يشكل، وكل ما أحاله من ذلك على غير ما قدره، ولا حجة له في شيء مما أتي به من ذلك، ولا شبهة توقع العذر له، إذ لم يكن السمع ولا العقل يحيلانه، بل يدلان على جوازه ويشهدان بصحته، وقد ثبت الخبر الصادق به، وله في إعجاز القرآن وصحة شهادته بالصدق للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنه لكلام يبعد من إطلاق مثله من صحت فطرته وسلمت من التعصب والتحامل والغفلة والتجاهل طريقته، وكنت استبعدت هذا حين حكي لي عنه؛ إذ لم يكن عندي ممن بلغ في الذهاب عن النظر الصحيح هذا الحد، إلى أن رأيته مثبتا بخطه، وقد حكيته على جهته في معناه ولفظه في غير موضع، من ذلك كتابنا المسمى البيان الموجز عن علم القرآن المعجز، وليس كتابنا هذا من مواضع البيان عن ذلك، والاشتغال بحكايته وإيضاح القول فيه وتبيين فساده. وقد قال بعض أهل العلم: لو سكت من لا يعلم لاسترحنا، وأنا أقول: لو كان له دين يردعه، ويكفه ويمنعه، ويقبضه فيقدعه، فيسكته قهرا، ويصمته قسرا، أو كان من يصرفه عن شنيع الجهالات وبديع الضلالات بالتأديب والقصب والتثريب، والتبكيت والتأنيب، ولرجونا أن يعفى الناس بذلك عما ينالهم من الضرر أو كثير منه من جهته، وإلى الله المشتكى، وهو المستعان على كل حادثة وبلوى.

التالي السابق


الخدمات العلمية