صفحة جزء
المجلس السادس والثمانون

حديث عكراش بن ذؤيب

حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: حدثنا العلاء بن الفضل بن أبي سوية قال: حدثنا عبيد الله بن عكراش بن ذؤيب قال، حدثني أبي عكراش بن ذؤيب قال: بعثني بنو مرة بن عبيد بصدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت عليه المدينة فوجدته جالسا بين المهاجرين والأنصار، وأتيته بإبل كأنها عروق الأرطى فقال لي: من الرجل؟ فقلت: عكراش بن ذؤيب، فقال لي: ارفع النسب، فقلت: ابن حرقوص بن جعدة بن عمرو بن النزال بن مرة بن عبيد، وهذه صدقات بني مرة بن عبيد، فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: هذه إبل قومي، هذه صدقات قومي، فأمر بها أن توسم بميسم الصدقة وأن تضم إليها، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ومضى بي إلى منزل أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل من طعام؟ فأتينا بجفنة كثيرة الثريد والوذر، فجعلت أخبط في نواحيها، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل من بين يديه، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى يدي اليمنى وقال: يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد، ثم أتينا بطبق فيه ألوان رطب أو تمر فجعلت آكل من موضع واحد، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق، وقال لي: يا عكراش إنه غير لون واحد فكل من حيث شئت، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ومسح، ببلل يديه وجهه وذراعيه ورأسه وقال: يا

عكراش هكذا الوضوء مما غيرت النار.


تفسير الحديث

قال أبو بكر: قوله " كأنها عروق الأرطى ": الأرطى شجر، واحدها أرطاة، وعروق [ ص: 646 ] الأرطى عروق حمر، وكذلك عروق السدر، فشبه الإبل بعروق الأرطى لحمرتها؛ وذلك أن أشرف الإبل عند العرب حمرها. وفيه قول آخر وهو أنه شبه الإبل بعروق الأرطى لضمرها؛ وذلك أن ضمرها يدل على نجابتها وكرمها، والعرب تشبه الثور والحمار بعروق الأرطى في الضمر، قال الشاعر في صفة حمار:


خاظ كعرق السدر يس بق غارة الخوص النجائب



يعني بالخاظي الحمار الممتلئ السريع. وقال ذو الرمة يذكر ثورا يحفر عن أصل شجرة:


توخاه بالأظلاف حتى كأنما     يثير الكثاب الجعد عن متن محمل



الكثاب ما يكثب من الرمل، والمحمل واحد حمائل السيف، يشبه حمرة عروق الشجرة بحمرة حمائل السيف. والوذر جمع الوذرة وهي قطعة لحم مجتمعة، والهبرة تشبهها إلا أنها أكبر منها، وجمع الهبرة هبر. قال القاضي: وفضل حمر الإبل على غيرها مشهور، ومن معروف كلامهم قول قائلهم: كذا وكذا أحب إلي من حمر النعم، فخصوا حمرها لشرفها. والأرطى شجر معروف عند العرب، وهي شجرة مستطيلة الورق الواحدة منها أرطاة، وقال العجاج:


بات إلى أرطاة حقف أحقفا



وقال الشماخ في الجمع.


إذا الأرطى توسد أبرديه     خدود جوازئ بالرمل عين



وقال آخر:


ولولا جنون الليل أدرك ركضنا     بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب



والشاهد في هذا كثير جدا.

قال القاضي: وألف أرطى أثبت للإلحاق بالأربعة كجعفر وسلهب، وهو ثلاثي أصله " أرط " يدل على هذا قولهم أديم مأروط، أي: مدبوغ بالأرطى، وإذا سميت به رجلا لم تصرفه في المعرفة لشبهه ألف التأنيث وأنه معرفة، وانصرف في النكرة ليفرق بين ألف التأنيث وبين الألف الزائدة لغير التأنيث.

وفي هذا الخبر من حسن مخالقة النبي صلى الله عليه وسلم وجميل عشرته وكريم شيمته، وتأنيسه عكراش بن ذؤيب وتواضعه لله بمؤاكلته، وتعليمه كيف يأكل أنواع الطعام مؤتلفه ومختلفه، مما يباهي شريف منزلته، ويوازي جلالة مرتبته.

وحق على كل ذي لب ودين وفطرة سليمة من أهل الدين تقيل فعله واتباع سبيله والانتهاء إلى ما ندب إليه والتأدب بما اختاره. وفيما جاء في هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أكل وغسل يديه ومسح بهما وجهه وذراعيه قال: هكذا الوضوء مما غيرت النار، [ ص: 647 ] وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بما أمر به من الوضوء مما غيرت النار وما مست النار الأدب والتنظف دون الوضوء المفروض على من قام إلى الصلاة. وآراء المحدثين، وترتيب الأخبار فيه تتضمنه كتبنا في الفقه.

التالي السابق


الخدمات العلمية