صفحة جزء
وقوله: أين ما تكونوا

إذا رأيت حروف الاستفهام قد وصلت بـ(ما) ، مثل قوله: أينما، ومتى ما، وأي ما، وحيث ما، وكيف ما، و أيا ما تدعوا كانت جزاء ولم تكن استفهاما، فإذا لم توصل بـ(ما) كان الأغلب عليها الاستفهام، وجاز فيها الجزاء. [ ص: 86 ]

فإذا كانت جزاء جزمت الفعلين: الفعل الذي مع أينما وأخواتها، وجوابه كقوله أين ما تكونوا يأت بكم الله

فإن أدخلت الفاء في الجواب رفعت الجواب فقلت في مثله من الكلام: أينما تكن فآتيك. كذلك قول الله -تبارك وتعالى- ومن كفر فأمتعه .

فإذا كانت استفهاما رفعت الفعل الذي يلي أين وكيف، ثم تجزم الفعل الثاني ليكون جوابا للاستفهام، بمعنى الجزاء كما قال الله تبارك وتعالى: هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ثم أجاب الاستفهام بالجزم فقال -تبارك وتعالى- يغفر لكم ذنوبكم .

فإذا أدخلت في جواب الاستفهام فاء نصبت كما قال الله -تبارك وتعالى- لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق فنصب.

فإذا جئت إلى العطوف التي تكون في الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك في العطف ثلاثة أوجه: إن شئت رفعت العطف مثل قولك: إن تأتني فإني أهل ذاك، وتؤجر وتحمد، وهو وجه الكلام. وإن شئت جزمت، وتجعله كالمردود على موضع الفاء. والرفع على ما بعد الفاء. وقد قرأت القراء من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم رفع وجزم. وكذلك [ ص: 87 ] إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر جزم ورفع. ولو نصبت على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأصبت كما قال الشاعر :


فإن يهلك النعمان تعر مطية وتخبأ في جوف العياب قطوعها



وإن جزمت عطفا بعد ما نصبت ترده على الأول، كان صوابا كما قال بعد هذا البيت:


وتنحط حصان آخر الليل نحطة     تقصم منها -أو تكاد- ضلوعها



وهو كثير في الشعر والكلام. وأكثر ما يكون النصب في العطوف إذا لم تكن في جواب الجزاء الفاء، فإذا كانت الفاء فهو الرفع والجزم.

وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف، وإن جزمتها فصواب. من ذلك قوله في المنافقين لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن رددت وأكن على موضع الفاء؛ لأنها في محل جزم؛ إذ كان الفعل إذا وقع موقعها بغير الفاء جزم. والنصب على أن ترده على ما بعدها، فتقول: "وأكون" وهي في قراءة عبد الله بن مسعود "وأكون" بالواو، وقد قرأ بها بعض القراء. قال: وأرى ذلك صوابا؛ لأن الواو ربما حذفت من الكتاب [ ص: 88 ] وهي تراد لكثرة ما تنقص وتزاد في الكلام، ألا ترى أنهم يكتبون "الرحمن" وسليمن بطرح الألف والقراءة بإثباتها فلهذا جازت. وقد أسقطت الواو من قوله سندع الزبانية ومن قوله ويدع الإنسان بالشر الآية، والقراءة على نية إثبات الواو. وأسقطوا من الأيكة ألفين فكتبوها في موضع ليكة، وهي في موضع آخر الأيكة، والقراء على التمام، فهذا شاهد على جواز "وأكون من الصالحين" .

وقال بعض الشعراء :


فأبلوني بليتكم لعلي     أصلكم وأستدرج نويا



فجزم (وأستدرج) ، فإن شئت رددته إلى موضع الفاء المضمرة في لعلي، وإن شئت جعلته في موضع رفع فسكنت الجيم لكثرة توالي الحركات. وقد قرأ بعض القراء "لا يحزنهم الفزع الأكبر" بالجزم وهم ينوون الرفع، وقرؤوا "أنلزمكموها وأنتم لها كارهون" والرفع أحب إلي من الجزم. [ ص: 89 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية