صفحة جزء
وقوله: وزلزلوا حتى يقول الرسول

قرأها القراء بالنصب إلا مجاهدا وبعض أهل المدينة فإنهما رفعاها.

ولها وجهان في العربية: نصب، ورفع. فأما النصب فلأن الفعل الذي قبلها مما يتطاول كالترداد. فإذا كان الفعل على ذلك المعنى نصب بعده بـ"حتى" وهو [ ص: 133 ] في المعنى ماض. فإذا كان الفعل الذي قبل حتى لا يتطاول وهو ماض رفع الفعل بعد حتى إذا كان ماضيا.

فأما الفعل الذي يتطاول وهو ماض فقولك: جعل فلان يديم النظر حتى يعرفك، ألا ترى أن إدامة النظر تطول. فإذا طال ما قبل حتى ذهب بما بعدها إلى النصب إن كان ماضيا بتطاوله. قال: وأنشدني [بعض العرب وهو] المفضل :


مطوت بهم حتى تكل غزاتهم وحتى الجياد ما يقدن بأرسان



فنصب (تكل) والفعل الذي أداه قبل حتى ماض؛ لأن المطو بالإبل يتطاول حتى تكل عنه. ويدلك على أنه ماض أنك تقول: مطوت بهم حتى كلت غزاتهم. فبحسن فعل مكان يفعل تعرف الماضي من المستقبل. ولا يحسن مكان المستقبل فعل، ألا ترى أنك لا تقول: أضرب زيدا حتى أقر؛ لأنك تريد: حتى يكون ذلك منه.

وإنما رفع مجاهد ؛ لأن فعل يحسن في مثله من الكلام كقولك: زلزلوا حتى قال الرسول. وقد كان الكسائي قرأ بالرفع دهرا ثم رجع إلى النصب. وهي في قراءة عبد الله : "وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول" وهو دليل على معنى النصب. [ ص: 134 ] .

ولحتى ثلاثة معان في يفعل، وثلاثة معان في الأسماء.

فإذا رأيت قبلها فعل ماضيا وبعدها يفعل في معنى مضي وليس ما قبل (حتى يفعل) يطول فارفع يفعل بعدها كقولك: جئت حتى أكون معك قريبا، وكان أكثر النحويين ينصبون الفعل بعد حتى وإن كان ماضيا إذا كان لغير الأول، فيقولون: سرت حتى يدخلها زيد فزعم الكسائي أنه سمع العرب تقول: سرنا حتى تطلع لنا الشمس بزبالة، فرفع والفعل للشمس، وسمع: إنا لجلوس فما نشعر حتى يسقط حجر بيننا، رفعا. قال: وأنشدني الكسائي :


وقد خضن الهجير وعمن حتى     يفرج ذاك عنهن المساء



وأنشد (قول الآخر) :


وننكر يوم الروع ألوان خيلنا     من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا



فنصب هاهنا؛ لأن الإنكار يتطاول. وهو الوجه الثاني من باب حتى.

وذلك أن يكون ما قبل حتى وما بعدها ماضيين، وهما مما يتطاول، فيكون يفعل فيه وهو ماض في المعنى أحسن من فعل، فنصب وهو ماض لحسن يفعل فيه. قال الكسائي : سمعت العرب تقول: إن البعير ليهرم حتى يجعل إذا شرب الماء مجه. وهو أمر قد مضى، و (يجعل) فيه أحسن من (جعل) ، وإنما حسنت؛ [ ص: 135 ] لأنها صفة تكون في الواحد على معنى الجميع، معناه: إن هذا ليكون كثيرا في الإبل.

ومثله: إن الرجل ليتعظم حتى يمر فلا يسلم على الناس. فتنصب (يمر) لحسن يفعل فيه وهو ماض، وأنشدني أبو ثروان :


أحب لحبها السودان حتى     أحب لحبها سود الكلاب



ولو رفع لمضيه في المعنى لكان صوابا. وقد أنشدنيه بعض بني أسد رفعا. فإذا أدخلت فيه "لا" اعتدل فيه الرفع والنصب كقولك: إن الرجل ليصادقك حتى لا يكتمك سرا، ترفع لدخول "لا" إذا كان المعنى ماضيا. والنصب مع دخول لا جائز.

ومثله ما يرفع وينصب إذ دخلت "لا" في قول الله تبارك وتعالى: وحسبوا ألا تكون فتنة رفعا ونصبا. ومثله: أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ينصبان ويرفعان، وإذا ألقيت منه "لا" لم يقولوه إلا نصبا؛ وذلك أن "ليس" تصلح مكان "لا" فيمن رفع بحتى وفيمن رفع بـ (أن) ، ألا ترى أنك تقول: إنه ليؤاخيك حتى ليس يكتمك شيئا، وتقول في "أن" : حسبت أن لست تذهب فتخلفت. وكل موضع حسنت فيه "ليس" مكان "لا" فافعل به هذا: الرفع مرة، والنصب مرة. ولو رفع الفعل [ ص: 136 ] في "أن" بغير "لا" لكان صوابا كقولك: حسبت أن تقول ذاك؛ لأن الهاء تحسن في "أن" فتقول: حسبت أنه يقول ذاك وأنشدني القاسم بن معن :


إنى زعيم يا نويقة     إن نجوت من الزواح
وسلمت من عرض الحتوف     من الغدو إلى الرواح
أن تهبطين بلاد قوم     يرتعون من الطلاح



فرفع (أن تهبطين) ولم يقل: أن تهبطي.

فإذا كانت "لا" لا تصلح مكانها "ليس" في "حتى" ولا في "أن" فليس إلا النصب، مثل قولك: لا أبرح حتى لا أحكم أمرك. ومثله في "أن" : أردت أن لا تقول ذاك. لا يجوز هاهنا الرفع.

والوجه الثالث في يفعل من "حتى" أن يكون ما بعد "حتى" مستقبلا، -ولا تبال كيف كان الذي قبلها- فتنصب كقول الله جل وعز لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ، و فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي وهو كثير في القرآن.

وأما الأوجه الثلاثة في الأسماء فأن ترى بعد حتى اسما وليس قبلها شيء يشاكله يصلح عطف ما بعد حتى عليه، أو أن ترى بعدها اسما وليس قبلها شيء. [ ص: 137 ] .

فالحرف بعد حتى مخفوض في الوجهين من ذلك قول الله تبارك وتعالى تمتعوا حتى حين و سلام هي حتى مطلع الفجر لا يكونان إلا خفضا؛ لأنه ليس قبلهما اسم يعطف عليه ما بعد حتى، فذهب بـ"حتى" إلى معنى "إلى" . والعرب تقول: أضمنه حتى الأربعاء أو الخميس، خفضا لا غير، وأضمن القوم حتى الأربعاء. والمعنى: أن أضمن القوم في الأربعاء؛ لأن الأربعاء يوم من الأيام، وليس بمشاكل للقوم فيعطف عليهم.

والوجه الثاني أن يكون ما قبل حتى من الأسماء عددا يكثر ثم يأتي بعد ذلك الاسم الواحد أو القليل من الأسماء. فإذا كان كذلك فانظر إلى ما بعد حتى فإن كانت الأسماء التي بعدها قد وقع عليها من الخفض والرفع والنصب ما قد وقع على ما قبل حتى ففيها وجهان: الخفض والإتباع لما قبل حتى من ذلك: قد ضرب القوم حتى كبيرهم، وحتى كبيرهم، وهو مفعول به، في الوجهين قد أصابه الضرب؛ وذلك أن "إلى" قد تحسن فيما قد أصابه الفعل، وفيما لم يصبه من ذلك أن تقول: أعتق عبيدك حتى أكرمهم عليك. تريد: وأعتق أكرمهم عليك، فهذا مما يحسن فيه إلى، وقد أصابه الفعل. وتقول فيما لا يحسن فيه أن يصيب الفعل ما بعد حتى: الأيام تصام كلها حتى يوم الفطر وأيام التشريق. معناه يمسك عن هذه الأيام فلا تصام. وقد حسنت فيها إلى.

والوجه الثالث أن يكون ما بعد حتى لم يصبه شيء مما أصاب ما قبل حتى فذلك خفض لا يجوز غيره كقولك: هو يصوم النهار حتى الليل، لا يكون الليل إلا خفضا، وأكلت السمكة حتى رأسها، إذا لم يؤكل الرأس لم يكن إلا خفضا. [ ص: 138 ] .

وأما قول الشاعر:


فيا عجبا حتى كليب تسبني     كأن أباها نهشل أو مجاشع



فإن الرفع فيه جيد وإن لم يكن قبله اسم؛ لأن الأسماء التي تصلح بعد حتى منفردة إنما تأتي من المواقيت كقولك: أقم حتى الليل. ولا تقول: أضرب حتى زيد؛ لأنه ليس بوقت فلذلك لم يحسن إفراد زيد وأشباهه، فرفع بفعله، فكأنه قال: يا عجبا أتسبني اللئام حتى يسبني كليبي، فكأنه عطفه على نية أسماء قبله. والذين خفضوا توهموا في كليب ما توهموا في المواقيت، وجعلوا الفعل كأنه مستأنف بعد كليب كأنه قال: قد انتهى بي الأمر إلى كليب، فسكت، ثم قال: تسبني.

التالي السابق


الخدمات العلمية