وقوله:
فشربوا منه إلا قليلا منهم
وفي إحدى القراءتين: "إلا قليل منهم".
والوجه في (إلا) أن ينصب ما بعدها إذا كان ما قبلها لا جحد فيه، فإذا كان ما قبل إلا فيه جحد جعلت ما بعدها تابعا لما قبلها معرفة كان أو نكرة. فأما المعرفة فقولك: ما ذهب الناس إلا زيد. وأما النكرة فقولك: ما فيها أحد إلا غلامك، لم يأت هذا عن العرب إلا بإتباع ما بعد إلا ما قبلها. وقال الله تبارك وتعالى:
ما فعلوه إلا قليل منهم ؛ لأن في (فعلوه) اسما معرفة، فكان الرفع الوجه في الجحد الذي ينفي الفعل "عنهم"، ويثبته لما بعد إلا. وهي في قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي "ما فعلوه إلا قليلا" كأنه نفى الفعل وجعل ما بعد إلا كالمنقطع عن أول الكلام كقولك: ما قام القوم، اللهم إلا رجلا أو رجلين.
[ ص: 167 ]
فإذا نويت الانقطاع نصبت، وإذا نويت الاتصال رفعت. ومثله قوله:
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس فهذا على هذا المعنى، ومثله:
فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ثم قال:
إلا قليلا ممن أنجينا منهم فأول الكلام -وإن كان استفهاما- جحد؛ لأن لولا بمنزلة هلا، ألا ترى أنك إذا قلت للرجل: (هلا قمت) أن معناه: لم تقم. ولو كان ما بعد (إلا) في هاتين الآيتين رفعا على نية الوصل لكان صوابا مثل قوله:
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فهذا نية وصل؛ لأنه غير جائز أن يوقف على ما قبل (إلا) .
وإذا لم تر قبل (إلا) اسما فأعمل ما قبلها فيما بعدها. فتقول: (ما قام إلا زيد) رفعت (زيدا) لإعمالك (قام) إذ لم تجد (قام) اسما بعدها. وكذلك: ما ضربت إلا أخاك، وما مررت إلا بأخيك.
وإذا كان الذي قبل (إلا) نكرة مع جحد فإنك تتبع ما بعد إلا ما قبلها كقولك: ما عندي أحد إلا أخوك. فإن قدمت إلا نصبت الذي كنت ترفعه فقلت: ما أتاني إلا أخاك أحد؛ وذلك أن (إلا) كانت مسوقة على ما قبلها فاتبعه، فلما قدمت فمنع أن يتبع شيئا هو بعدها فاختاروا الاستثناء. ومثله قول الشاعر:
لمية موحشا طلل يلوح كأنه خلل
[ ص: 168 ] المعنى: لمية طلل موحش، فصلح رفعه؛ لأنه أتبع الطلل، فلما قدم لم يجز أن يتبع الطلل وهو قبله. وقد يجوز رفعه على أن تجعله كالاسم يكون الطلل ترجمة عنه كما تقول: عندي خراسانية جارية، والوجه النصب في خراسانية. ومن العرب من يرفع ما تقدم في إلا على هذا التفسير. قال: وأنشدونا:
بالثني أسفل من جماء ليس له إلا بنيه وإلا عرسه شيع
وينشد: إلا بنوه وإلا عرسه. وأنشد
أبو ثروان :
ما كان منذ تركنا أهل أسنمة إلا الوجيف لها رعي ولا علف
ورفع غيره. وقال
ذو الرمة :
مقزع أطلس الأطمار ليس له إلا الضراء وإلا صيدها نشب
ورفعه على أنه بنى كلامه على: ليس له إلا الضراء وإلا صيدها، ثم ذكر في آخر الكلام (نشب) ويبينه أن تجعل موضعه في أول الكلام.
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة وفي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي "كأين من فئة قليلة غلبت" وهما لغتان. وكذلك
وكأين من نبي هي لغات كلها معناهن معنى كم. فإذا ألقيت (من) كان في الاسم النكرة النصب والخفض. من ذلك قول العرب: كم رجل كريم قد رأيت، وكم جيشا جرارا قد هزمت. فهذان وجهان، ينصبان ويخفضان والفعل في المعنى واقع. فإن كان الفعل ليس بواقع وكان للاسم جاز النصب أيضا
[ ص: 169 ] والخفض. وجاز أن تعمل الفعل فترفع به النكرة، فتقول: كم رجل كريم قد أتاني، ترفعه بفعله، وتعمل فيه الفعل إن كان واقعا عليه فتقول: كم جيشا جرارا قد هزمت، نصبته بهزمت. وأنشدوا قول الشاعر:
كم عمة لك يا جرير وخالة فدعاء قد حلبت علي عشاري
رفعا ونصبا وخفضا، فمن نصب قال: كان أصل "كم" الاستفهام، وما بعدها من النكرة مفسر كتفسير العدد، فتركناها في الخبر على جهتها، وما كانت عليه في الاستفهام فنصبنا ما بعد (كم) من النكرات كما تقول: عندي كذا وكذا درهما، ومن خفض قال: طالت صحبة من للنكرة في كم، فلما حذفناها أعملنا إرادتها، فخفضنا كما قالت العرب إذا قيل لأحدهم: كيف أصبحت؟ قال: خير عافاك الله، فخفض، يريد: بخير. وأما من رفع فأعمل الفعل الآخر، [و] نوى تقديم الفعل كأنه قال: كم قد أتاني رجل كريم. وقال
امرؤ القيس :
تبوص وكم من دونها من مفازة وكم أرض جدب دونها ولصوص
فرفع على نية تقديم الفعل. وإنما جعلت الفعل مقدما في النية؛ لأن النكرات لا تسبق أفاعيلها، ألا ترى أنك تقول: ما عندي شيء، ولا تقول ما شيء عندي.
[ ص: 170 ]