صفحة جزء
وقوله ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله أمر الكاتب ألا يأبى لقلة الكتاب كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله فليكتب وليملل الذي عليه الحق فأمر الذي عليه الدين بأن يمل؛ لأنه المشهود عليه.

ثم قال فإن كان الذي عليه الحق سفيها يعني جاهلا أو ضعيفا صغيرا أو امرأة أو لا يستطيع أن يمل هو يكون عييا بالإملاء فليملل وليه يعني صاحب الدين. فإن شئت جعلت الهاء للذي ولي الدين، وإن شئت جعلتها للمطلوب. كل ذلك جائز.

[ ص: 184 ]

ثم قال تبارك وتعالى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان أي: فليكن رجل وامرأتان فرفع بالرد على الكون. وإن شئت قلت: فهو رجل وامرأتان. ولو كانا نصبا أي: فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين. وأكثر ما أتى في القرآن من هذا بالرفع، فجرى هذا معه.

وقوله ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما بفتح أن، وتكسر، فمن كسرها نوى بها الابتداء فجعلها منقطعة مما قبلها، ومن فتحها فهو أيضا على سبيل الجزاء إلا أنه نوى أن يكون فيه تقديم وتأخير. فصار الجزاء وجوابه كالكلمة الواحدة. ومعناه -والله أعلم- استشهدوا امرأتين مكان الرجل كيما تذكر الذاكرة الناسية إن نسيت، فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله، وصار جوابه مردودا عليه. ومثله في الكلام قولك: (إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى) فالذي يعجبك الإعطاء إن يسأل، ولا يعجبك المسألة ولا الافتقار. ومثله: استظهرت بخمسة أجمال أن يسقط مسلم فأحمله، إنما استظهرت بها لتحمل الساقط، لا؛ لأن يسقط مسلم. فهذا دليل على التقديم والتأخير.

ومثله في كتاب الله ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا ألا ترى أن المعنى: لولا أن يقولوا إن أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم: هلا أرسلت إلينا رسولا. فهذا مذهب بين.

[ ص: 185 ] .

وقوله: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا

إلى الحاكم.

إلا أن تكون تجارة حاضرة ترفع وتنصب، فإن شئت جعلت تديرونها في موضع نصب فيكون لكان مرفوع ومنصوب، وإن شئت جعلت تديرونها في موضع رفع؛ وذلك أنه جائز في النكرات أن تكون أفعالها تابعة لأسمائها؛ لأنك تقول: إن كان أحد صالح ففلان، ثم تلقي (أحدا) فتقول: إن كان صالح ففلان، وهو غير موقت فصلح نعته مكان اسمه؛ إذ كانا جميعا غير معلومين، ولم يصلح ذلك في المعرفة؛ لأن المعرفة موقتة معلومة، وفعلها غير موافق للفظها ولا لمعناها.

فإن قلت: فهل يجوز أن تقول: كان أخوك القاتل، فترفع؛ لأن الفعل معرفة والاسم معرفة فترفعا للاتفاق إذا كانا معرفة كما ارتفعا للاتفاق في النكرة؟

قلت: لا يجوز ذلك من قبل أن نعت المعرفة دليل عليها إذا حصلت، ونعت النكرة متصل بها كصلة الذي. وقد أنشدني المفضل الضبي:


أفاطم إني هالك فتبيني ولا تجزعي كل النساء يئيم     ولا أنبأن بأن وجهك شانه
خموش وإن كان الحميم الحميم



[ ص: 186 ] فرفعهما. وإنما رفع الحميم الثاني؛ لأنه تشديد للأول. ولو لم يكن في الكلام الحميم لرفع الأول. ومثله في الكلام: ما كنا بشيء حين كنت، تريد حين صرت وجئت، فتكتفي (كان) بالاسم.

ومما يرفع من النكرات قوله وإن كان ذو عسرة وفي قراءة عبد الله وأبي "وإن كان ذا عسرة" فهما جائزان إذا نصبت أضمرت في كان اسما كقول الشاعر :


لله قومي أي قوم لحرة     إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا!



وقال آخر:


أعيني هلا تبكيان عفاقا     إذا كان طعنا بينهم وعناقا



وإنما احتاجوا إلى ضمير الاسم في (كان) مع المنصوب؛ لأن بنية (كان) على أن يكون لها مرفوع ومنصوب، فوجدوا (كان) يحتمل صاحبا مرفوعا فأضمروه مجهولا.

وقوله فإن كن نساء فوق اثنتين فقد أظهرت الأسماء. فلو قال: فإن كان نساء جاز الرفع والنصب. ومثله إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ومثله [ ص: 187 ] إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا ومن قال (تكون ميتة) جاز فيه الرفع والنصب. وقلت (تكون) لتأنيث الميتة، وقوله إنها إن تك مثقال حبة من خردل فإن قلت: إن المثقال ذكر فكيف قال (تكن)؟ قلت: لأن المثقال أضيف إلى الحبة وفيها المعنى، كأنه قال: إنها إن تك حبة، وقال الشاعر:


على قبضة مرجوة ظهر كفه     فلا المرء مستحي ولا هو طاعم



لأنه ذهب إلى الكف، ومثله قول الآخر:


وتشرق بالقول الذي قد أذعته     كما شرقت صدر القناة من الدم



وقوله:


أبا عرو لا تبعد فكل ابن حرة     ستدعوه داعي موتة فيجيب



فأنث فعل الداعي وهو ذكر؛ لأنه ذهب إلى الموتة. وقال الآخر:


قد صرح السير عن كتمان وابتذلت     وقع المحاجن بالمهرية الذقن



فأنث فعل الوقع وهو ذكر؛ لأنه ذهب إلى المحاجن.

وقوله ولا يضار كاتب ولا شهيد أي: لا يدع كاتب وهو مشغول، ولا شهيد.

[ ص: 188 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية